الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر إرسال عبد الله بن أبي إليهم بعد الخروج من أرضهم

                                                                                                                                                                                                                              فبينما هم على ذلك إذ جاءهم رسولا عبد الله بن أبي ابن سلول : سويد ، وداعس ، فقالا : يقول عبد الله بن أبي : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم ، وأقيموا في حصونكم ، فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب ، يدخلون معكم حصنكم ، فيموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم ، وتمدكم قريظة ، فإنهم لن يخذلوكم ، ويمدكم حلفاؤكم من غطفان . وأرسل ابن أبي إلى كعب بن أسد القرظي يكلمه أن يمد أصحابه ، فقال : لا ينقض رجل واحد منا العهد .

                                                                                                                                                                                                                              فيئس ابن أبي من بني قريظة ، وأراد أن يلحم الأمر فيما بين بني النضير ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يرسل إلى حيي بن أخطب ، فقال حيي : أنا أرسل إلى محمد أعلمه أنا لا نخرج من دارنا وأموالنا ، فليصنع ما بدا له . وطمع حيي فيما قال ابن أبي .

                                                                                                                                                                                                                              فقال له سلام بن مشكم : «منتك نفسك والله- يا حيي الباطل ، ولولا أن يسفه رأيك لاعتزلتك بمن أطاعني من يهود ، فلا تفعل يا حيي ، فوالله إنك لتعلم- ونعلم معك- أنه لرسول الله ، وأن صفته عندنا ، وأنا لم نتبعه وحسدناه ، حيث خرجت النبوة من بني هارون ، فتعال فلنقبل ما أعطانا من الأمن ونخرج من بلاده ، وقد عرفت أنك خالفتني في الغدر به ، فإذا كان أوان الثمر ، جئنا أو جاء أحد منا إلى ثمره فباع أو صنع ما بدا له ، ثم انصرف إلينا ، فكأنا لا [ ص: 321 ]

                                                                                                                                                                                                                              نخرج من بلادنا إذا كانت أموالنا بأيدينا إنا إنما شرفنا على قومنا بأموالنا وفعالنا ، فإذا ذهبت أموالنا من أيدينا كنا كغيرنا من اليهود في الذلة والإعدام وإن محمدا إن سار إلينا فحاصرنا في هذه الصياصي يوما واحدا ، ثم عرضنا عليه ما أرسل به إلينا لم يقبله ، وأبى علينا» .

                                                                                                                                                                                                                              قال حيي بن أخطب : «إن محمدا لا يحصرنا إلا إن أصاب منا نهزة ، وإلا انصرف ، وقد وعدني ابن أبي ما قد رأيت» .

                                                                                                                                                                                                                              قال سلام : «ليس قول ابن أبي بشيء ، إنما يريد ابن أبي أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمدا ، ثم يجلس في بيته ويتركك ، قد أراد من كعب بن أسد النصر وأبى كعب ، وقال : لا ينقض هذا العهد رجل من بني قريظة وأنا حي ، وإلا فابن أبي قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد ، وحصروا أنفسهم في صياصيهم ، وانتظروا نصر ابن أبي ، فجلس في بيته ، وسار إليهم محمد فحصرهم ، حتى نزلوا على حكمه ، فابن أبي لا ينصر حلفاءه ، ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حروبهم كلها ، إلى أن انقطعت حروبهم ، وقدم محمد فحجز بينهم . وابن أبي لا هو على دين يهود ، ولا هو على دين محمد ، ولا هو على دين قومه ، فكيف تقبل منه قوله ؟ قال حيي : «تأبى نفسي إلا عداوة محمد وإلا قتاله» . قال سلام : «فهو والله جلاؤنا من أرضنا ، وذهاب أموالنا وشرفنا ، وسبي ذرارينا ، مع قتل مقاتلتنا» فأبى حيي إلا محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              فقال له ساموك- بالكاف- ابن أبي الحقيق- بحاء مهملة مضمومة فقاف مفتوحة فتحتية ساكنة ثم قاف أخرى- وكان ساموك ضعيفا عندهم في عقله ، كانت به جنة : «يا حيي أنت رجل مشؤوم ، تهلك بني النضير » ، فغضب حيي وقال : كل بني النضير قد كلمني حتى هذا المجنون ، فضربه إخوته ، وقالوا لحيي : أمرنا لأمرك تبع ، لن نخالفك .

                                                                                                                                                                                                                              فأرسل حيي أخاه جدي- بضم الجيم وفتح الدال المهملة وتشديد التحتية- ابن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : إنا لا نبرح من ديارنا وأموالنا ، فاصنع ما أنت صانع . وأمره أن يأتي ابن أبي فيخبره برسالته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويأمره أن يتعجل ما وعد من النصر .

                                                                                                                                                                                                                              فذهب جدي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أرسله حيي ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين أصحابه فأخبره ، فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير ، وكبر المسلمون لتكبيره ، وقال : حاربت يهود .

                                                                                                                                                                                                                              وخرج جدي حتى دخل على ابن أبي وهو جالس في بيته ، ومعه نفر من حلفائه ، وقد نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالمسير إلى بني النضير ، فدخل عبد الله بن عبد الله بن [ ص: 322 ] أبي على أبيه وعلى النفر الذين معه ، وعنده جدي بن أخطب ، فلبس درعه ، وأخذ سيفه وخرج يعدو .

                                                                                                                                                                                                                              قال جدي : لما رأيت ابن أبي جالسا في ناحية البيت ، وابنه عليه السلاح ، يئست منه ومن نصره ، فخرجت أعدو إلى حيي ، فقال : ما وراءك ؟ قال : فقلت الشر ، ساعة أخبرت محمدا بما أرسلت به إليه أظهر التكبير وقال : حاربت يهود ، قال : وجئت ابن أبي فأخبرته ، ونادى منادي محمد بالمسير إلى بني النضير ، فقال حيي : وما رد عليك ابن أبي ؟ قال جدي : لم أر عنده خيرا ، قال : أنا أرسل إلى حلفائي من غطفان . فيدخلون معكم .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية