الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              السادس : في قوله تعالى : قل الروح من أمر ربي ، قال الإمام فخر الدين الرازي :

                                                                                                                                                                                                                              "يحتمل أن يكون المراد بالأمر هنا الفعل كقوله تعالى : وما أمر فرعون برشيد [هود 97] . [ ص: 388 ]

                                                                                                                                                                                                                              أي فعله ، فيكون الجواب : الروح من فعل ربي ، إن كان السؤال : هل هي قديمة أو حادثة؟ فيكون الجواب : أنها حادثة" . . إلى أن قال : "ولهذا سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها" . وقال الإسماعيلي : "يحتمل أن يكون جوابا ، وأن الروح من جملة أمر الله ، وأن يكون المراد : اختص الله عز وجل بعلمه ولا سؤال لأحد عنه" .

                                                                                                                                                                                                                              وقال السهيلي بعد أن حكى ما المراد في الآية : "وقالت طائفة : الروح الذي سألت عنه اليهود هو روح الإنسان . ثم اختلف أصحاب هذا القول ، فمنهم من قال : لم يجبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سؤالهم ، لأنهم سألوه تعنتا واستهزاء ، فقال الله عز وجل : قل الروح من أمر ربي ، ولم يأمره أن يبينه لهم . وقالت طائفة : بل أخبرهم وأجابهم بما سألوه ، لأنه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل الروح من أمر ربي ، وأمر الرب هو الشرع والكتاب الذي جاء به ، فمن دخل في الشرع وتفقه في الكتاب والسنة عرف الروح ، فكان معنى الكلام : ادخلوا في الدين تعرفوا ما سألتم عنه ، فإنه من أمر ربي ، أي من الأمر الذي جئت به مبلغا عن الرب ، وذلك أن الروح لا سبيل إلى معرفتها من جهة الطبيعة ولا من جهة الفلسفة ولا من جهة الرأي والمعرفة ، وإنما تعرف من جهة الشرع . فإذا نظرت إلى ما في الكتاب والسنة من ذكرها نحو قوله تعالى : ثم سواه ونفخ فيه من روحه [السجدة 9] أي من روح الحياة ، والحياة من صفات الله سبحانه وتعالى ، وإلى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن "الأرواح جنود مجندة" ، وأنها تتعارف وتتشام في الهواء ، وأنها تقبض من الأجساد بعد الموت ، وأنها تسأل في القبر فتفهم السؤال وتسمع وترى ، وتنعم وتعذب ، وتلتذ وتتألم ، وهذه كلها من صفات الأجسام ، فإنك تعرف أنها أجسام بهذه الدلائل ، لكنها ليست كالأجسام في كثافتها وثقلها وإظلامها ، إذ الأجسام خلقت من طين وحمأ مسنون ، فهو أصلها ، والأرواح خلقت من ماء كما قال الله سبحانه وتعالى ، ويكون النفخ المتقدم المضاف إلى الملك ، والملائكة خلقت من النور كما جاء في الصحيح ، وإن كان قد أضاف النفخ إلى نفسه سبحانه وتعالى ، وكذلك أضاف قبض الأرواح إلى نفسه فقال : الله يتوفى الأنفس حين موتها [الزمر 42] ، وأضاف ذلك إلى الملك أيضا فقال : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم [السجدة 11] ، والفعل مضاف إلى الملك مجازا وإلى الرب حقيقة .

                                                                                                                                                                                                                              فالروح إذا جسم ، ولكنه من جنس الريح ، ولذلك سمي روحا من لفظ الريح ، ونفخة الملك في معنى الريح ، غير أنه ضم أوله لأنه نوراني ، والريح هواء متحرك . وإذا كان الشرع قد عرفنا من معاني الروح وصفاتها هذا القدر ، فقد عرف من جهة أمرها كما قال سبحانه وتعالى :

                                                                                                                                                                                                                              وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [الإسراء 85] ، وقوله : من أمر ربي ، أيضا ، ولم يقل من [ ص: 389 ]

                                                                                                                                                                                                                              أمر الله ، ولا من أمر ربكم ، يدل على خصوص ، وعلى ما قدمنا من أنه لا يعلمه إلا من أخذ معناه من قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، بعد الإيمان بالله ورسوله واليقين الصادق والفقه في الدين ، فإن كان لم يخبر اليهود حين سألوا عنها ، فقد أحالهم على موضع العلم بها .

                                                                                                                                                                                                                              السابع : قال ابن القيم : ليس المراد بالأمر هنا الطلب اتفاقا ، وإنما المراد به المأمور ، والأمر يطلق على المأمور ، كالخلق على المخلوق ، ومنه لما جاء أمر ربك [هود 101] الآية .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن : قال ابن بطال : "معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله عز وجل بعلمه بدليل هذا الخبر" ، قال : "والحكمة في إبهامه اختبار الخلق ، ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه ، حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه" . وقال القرطبي : "الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء ، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده ، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى" .

                                                                                                                                                                                                                              التاسع : ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يفسر الروح ، أي لا يعين المراد بها في الآية . وممن رأى الإمساك عن الكلام في الروح أستاذ الطائفة أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى ، كما في "عوارف المعارف" عنه ، بعد أن نقل كلام الناس في الروح ، وكان الأولى الإمساك عن ذلك ، والتأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم . ثم نقل عن الجنيد أنه قال : "الروح شيء استأثر الله عز وجل بعلمه ، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود" .

                                                                                                                                                                                                                              وعلى ذلك جرى ابن عطية وجمع من أهل التفسير ، وأجاب من خاض في ذلك بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز وتغليظ لكونه يطلق على أشياء ، فأضمروا بأنه بأي شيء أجاب

                                                                                                                                                                                                                              قالوا : ليس هذا المراد ، فرد الله كيدهم وأجابهم جوابا مجملا مطابقا لسؤالهم المجمل .

                                                                                                                                                                                                                              وقال في "العوارف" : "ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمثابة التأويل لكلام الله تعالى والآيات المنزلة ، حيث حرم تفسيره وجوز تأويله ، إذ لا يسوغ التفسير إلا نقلا ، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل ، وهو ذكر ما تتحمل الآية (من المعنى من غير القطع بأنه المراد ) . وإذا كان الأمر كذلك ، فللقول فيه وجه ومحمل . قال : وظاهر الآية المنع من القول فيها ، فختم الآية بقوله : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي اجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه ، فلا تسألوا عنه ، فإنه من الأسرار .

                                                                                                                                                                                                                              العاشر : نقل ابن منده في كتاب "الروح" له عن الإمام الحافظ المطلع على اختلاف الأحكام من عهد الصحابة إلى عهد فقهاء الأمصار محمد بن نصر المروزي أنه نقل الإجماع على أن الروح مخلوقة ، وإنما نقل القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة والمتصوفة . [ ص: 390 ]

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر : اختلف هل تفنى عند فناء العالم قبل البعث أو تستمر باقية؟ على قولين ، أرجحهما الثاني عند الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني عشر : ذكر بعض المفسرين أن الحكمة في سؤال اليهود عن الروح أن عندهم في التوراة أن روح بني آدم لا يعلمها إلا الله عز وجل ، فقالوا : نسأله ، فإن فسرها فهو نبي ، وهو معنى قولهم : لا يجيء بشيء تكرهونه .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث عشر : جنح ابن القيم في كتاب "الروح" إلى ترجيح أن المراد بالروح المسؤول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا [النبأ : 38] وأما أرواح بني آدم فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفسا . قال الحافظ : "كذا قال ، ولا دلالة في ذلك لما رجحه ، بل الراجح الأول : فقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه القصة أنهم قالوا : أخبرنا عن الروح ، وكيف يعذب الروح الذي في الجسد؟ إلى آخره [ما قالوا وقد] تقدم بتمامه .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع عشر : قال بعضهم : ليس في الآية دلالة على أن الله سبحانه وتعالى لم يطلع نبيه على حقيقة الروح ، بل يحتمل أن يكون أطلعه ، ولم يأمره أن يطلعهم ، وقد قال في علم الساعة نحو هذا كما سيأتي مبسوطا في الخصائص إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس عشر : وقع في الصحيح في العلم والاعتصام والتوحيد ، وكذا عند مسلم : إذ مر بنفر ، عند ابن حجر من وجه آخر : إذ مررنا على يهود ، ووقع في التفسير : إذ مر اليهود ، بالرفع على الفاعلية ، ويحتمل هذا الاختلاف على أن الفريقين تلاقوا ، فيصدق أن كلا مر بالآخر .

                                                                                                                                                                                                                              السادس عشر : في بيان غريب ما سبق :

                                                                                                                                                                                                                              "حرث" : بفتح الحاء المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة ، ووقع عند البخاري في كتاب العلم خرب بخاء معجمة مفتوحة فراء مكسورة .

                                                                                                                                                                                                                              "يتوكأ" : يعتمد .

                                                                                                                                                                                                                              "عسيب" : بعين فسين مهملتين وآخره موحدة بوزن عظيم ، وهو جريدة [النخل] التي لا خوص عليها . قال ابن فارس : العسبان من النخل كالقضبان من غيرها .

                                                                                                                                                                                                                              "يهود" : هذا اللفظ معرفة ، تدخله الألف واللام تارة وتارة يتجرد ، وحذفوا منه ياء النسبة تفرقة بينه وبين مفرده ، كما قالوا : زنج وزنجي . [ ص: 391 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية