السادس : في قل الروح من أمر ربي ، قال الإمام قوله تعالى : فخر الدين الرازي :
"يحتمل أن يكون المراد بالأمر هنا الفعل كقوله تعالى : وما أمر فرعون برشيد [هود 97] . [ ص: 388 ]
أي فعله ، فيكون الجواب : الروح من فعل ربي ، إن كان السؤال : هل هي قديمة أو حادثة؟ فيكون الجواب : أنها حادثة" . . إلى أن قال : "ولهذا سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها" . وقال "يحتمل أن يكون جوابا ، وأن الروح من جملة أمر الله ، وأن يكون المراد : اختص الله عز وجل بعلمه ولا سؤال لأحد عنه" . الإسماعيلي :
وقال السهيلي بعد أن حكى ما المراد في الآية : "وقالت طائفة : الروح الذي سألت عنه اليهود هو روح الإنسان . ثم اختلف أصحاب هذا القول ، فمنهم من قال : لم يجبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سؤالهم ، لأنهم سألوه تعنتا واستهزاء ، فقال الله عز وجل : قل الروح من أمر ربي ، ولم يأمره أن يبينه لهم . وقالت طائفة : بل أخبرهم وأجابهم بما سألوه ، لأنه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل الروح من أمر ربي ، وأمر الرب هو الشرع والكتاب الذي جاء به ، فمن دخل في الشرع وتفقه في الكتاب والسنة عرف الروح ، فكان معنى الكلام : ادخلوا في الدين تعرفوا ما سألتم عنه ، فإنه من أمر ربي ، أي من الأمر الذي جئت به مبلغا عن الرب ، وذلك أن الروح لا سبيل إلى معرفتها من جهة الطبيعة ولا من جهة الفلسفة ولا من جهة الرأي والمعرفة ، وإنما تعرف من جهة الشرع . فإذا نظرت إلى ما في الكتاب والسنة من ذكرها نحو قوله تعالى : ثم سواه ونفخ فيه من روحه [السجدة 9] أي من روح الحياة ، والحياة من صفات الله سبحانه وتعالى ، وإلى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ، وأنها تتعارف وتتشام في الهواء ، وأنها تقبض من الأجساد بعد الموت ، وأنها تسأل في القبر فتفهم السؤال وتسمع وترى ، وتنعم وتعذب ، وتلتذ وتتألم ، وهذه كلها من صفات الأجسام ، فإنك تعرف أنها أجسام بهذه الدلائل ، لكنها ليست كالأجسام في كثافتها وثقلها وإظلامها ، إذ الأجسام خلقت من طين وحمأ مسنون ، فهو أصلها ، والأرواح خلقت من ماء كما قال الله سبحانه وتعالى ، ويكون النفخ المتقدم المضاف إلى الملك ، والملائكة خلقت من النور كما جاء في الصحيح ، وإن كان قد أضاف النفخ إلى نفسه سبحانه وتعالى ، وكذلك أضاف قبض الأرواح إلى نفسه فقال : "الأرواح جنود مجندة" الله يتوفى الأنفس حين موتها [الزمر 42] ، وأضاف ذلك إلى الملك أيضا فقال : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم [السجدة 11] ، والفعل مضاف إلى الملك مجازا وإلى الرب حقيقة .
فالروح إذا جسم ، ولكنه من جنس الريح ، ولذلك سمي روحا من لفظ الريح ، ونفخة الملك في معنى الريح ، غير أنه ضم أوله لأنه نوراني ، والريح هواء متحرك . وإذا كان الشرع قد عرفنا من معاني الروح وصفاتها هذا القدر ، فقد عرف من جهة أمرها كما قال سبحانه وتعالى :
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [الإسراء 85] ، وقوله : من أمر ربي ، أيضا ، ولم يقل من [ ص: 389 ]
أمر الله ، ولا من أمر ربكم ، يدل على خصوص ، وعلى ما قدمنا من أنه لا يعلمه إلا من أخذ معناه من قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، بعد الإيمان بالله ورسوله واليقين الصادق والفقه في الدين ، فإن كان لم يخبر اليهود حين سألوا عنها ، فقد أحالهم على موضع العلم بها .
السابع : قال ابن القيم : ليس المراد بالأمر هنا الطلب اتفاقا ، وإنما المراد به المأمور ، والأمر يطلق على المأمور ، كالخلق على المخلوق ، ومنه لما جاء أمر ربك [هود 101] الآية .
الثامن : قال "معرفة ابن بطال : مما استأثر الله عز وجل بعلمه بدليل هذا الخبر" ، قال : "والحكمة في إبهامه اختبار الخلق ، ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه ، حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه" . وقال حقيقة الروح "الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء ، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده ، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى" . القرطبي :
التاسع : ثبت عن رضي الله عنهما أنه كان لا يفسر الروح ، أي لا يعين المراد بها في الآية . وممن رأى الإمساك عن الكلام في الروح أستاذ الطائفة ابن عباس أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى ، كما في "عوارف المعارف" عنه ، بعد أن نقل كلام الناس في الروح ، وكان الأولى الإمساك عن ذلك ، والتأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم . ثم نقل عن الجنيد أنه قال : "الروح شيء استأثر الله عز وجل بعلمه ، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه ، فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود" .
وعلى ذلك جرى ابن عطية وجمع من أهل التفسير ، وأجاب من خاض في ذلك بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز وتغليظ لكونه يطلق على أشياء ، فأضمروا بأنه بأي شيء أجاب
قالوا : ليس هذا المراد ، فرد الله كيدهم وأجابهم جوابا مجملا مطابقا لسؤالهم المجمل .
وقال في "العوارف" : "ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمثابة التأويل لكلام الله تعالى والآيات المنزلة ، حيث حرم تفسيره وجوز تأويله ، إذ لا يسوغ التفسير إلا نقلا ، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل ، وهو ذكر ما تتحمل الآية (من المعنى من غير القطع بأنه المراد ) . وإذا كان الأمر كذلك ، فللقول فيه وجه ومحمل . قال : وظاهر الآية المنع من القول فيها ، فختم الآية بقوله : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي اجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه ، فلا تسألوا عنه ، فإنه من الأسرار .
العاشر : نقل في كتاب "الروح" له عن الإمام الحافظ المطلع على اختلاف الأحكام من عهد الصحابة إلى عهد فقهاء الأمصار محمد بن نصر المروزي أنه نقل الإجماع على أن الروح مخلوقة ، وإنما نقل القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة والمتصوفة . [ ص: 390 ] ابن منده
الحادي عشر : اختلف هل تفنى عند فناء العالم قبل البعث أو تستمر باقية؟ على قولين ، أرجحهما الثاني عند الجمهور .
الثاني عشر : ذكر بعض المفسرين أن الحكمة في سؤال اليهود عن الروح أن عندهم في التوراة أن روح بني آدم لا يعلمها إلا الله عز وجل ، فقالوا : نسأله ، فإن فسرها فهو نبي ، وهو معنى قولهم : لا يجيء بشيء تكرهونه .
الثالث عشر : جنح ابن القيم في كتاب "الروح" إلى ترجيح أن المراد بالروح المسؤول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا [النبأ : 38] وأما أرواح بني آدم فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفسا . قال الحافظ : "كذا قال ، ولا دلالة في ذلك لما رجحه ، بل الراجح الأول : فقد روى من طريق ابن جرير عن العوفي رضي الله عنهما في هذه القصة أنهم قالوا : أخبرنا عن الروح ، وكيف يعذب الروح الذي في الجسد؟ إلى آخره [ما قالوا وقد] تقدم بتمامه . ابن عباس
الرابع عشر : قال بعضهم : ليس في الآية دلالة على أن الله سبحانه وتعالى لم يطلع نبيه على حقيقة الروح ، بل يحتمل أن يكون أطلعه ، ولم يأمره أن يطلعهم ، وقد قال في علم الساعة نحو هذا كما سيأتي مبسوطا في الخصائص إن شاء الله تعالى .
الخامس عشر : وقع في الصحيح في العلم والاعتصام والتوحيد ، وكذا عند إذ مر بنفر ، عند مسلم : ابن حجر من وجه آخر : إذ مررنا على يهود ، ووقع في التفسير : إذ مر اليهود ، بالرفع على الفاعلية ، ويحتمل هذا الاختلاف على أن الفريقين تلاقوا ، فيصدق أن كلا مر بالآخر .
السادس عشر : في بيان غريب ما سبق :
"حرث" : بفتح الحاء المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة ، ووقع عند في كتاب العلم خرب بخاء معجمة مفتوحة فراء مكسورة . البخاري
"يتوكأ" : يعتمد .
"عسيب" : بعين فسين مهملتين وآخره موحدة بوزن عظيم ، وهو جريدة [النخل] التي لا خوص عليها . قال ابن فارس : العسبان من النخل كالقضبان من غيرها .
"يهود" : هذا اللفظ معرفة ، تدخله الألف واللام تارة وتارة يتجرد ، وحذفوا منه ياء النسبة تفرقة بينه وبين مفرده ، كما قالوا : زنج وزنجي . [ ص: 391 ]