الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : قال السهيلي -رحمه الله تعالى- : أخذ الصحابة التأريخ من الهجرة من قوله تبارك وتعالى : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم [التوبة 108]؛ لأنه معلوم أنه ليس أول الأيام مطلقا ، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر ، وهو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام ، وعبد النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه تبارك وتعالى آمنا ، وابتدأ بناء المسجد فوافق رأي الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ابتداء التأريخ من ذلك اليوم ، وفهمنا من فعلهم أن قوله تعالى : من أول يوم أنه أول أيام التأريخ . قال الحافظ -رحمه الله تعالى- كذا قال ، والمتبادر أن معنى قوله : من أول يوم أي : يوم دخل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المدينة .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : إنما يؤرخ بالأشهر الهلالية التي قد تكون ثلاثين ، وقد تكون تسعا وعشرين كما ثبت في الحديث دون الشمسية الحسبية وهي ابتداء ثلاثون فتزيد عليها .

                                                                                                                                                                                                                              قال الله سبحانه وتعالى في قصة أصحاب الكهف : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [الكهف 25] . [ ص: 40 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال المفسرون : زيادة التسعة باعتبار الهلالية ، وهي ثلاثمائة فقط هلالية ، وإنما كان التأريخ بالهلالية للحديث الصحيح : «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب ، الشهر هكذا ، وهكذا» ، والحديث الصحيح : «إذا رأيتموه -يعني الهلال- فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» .

                                                                                                                                                                                                                              وآلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من نسائه شهرا ، ودخل عليهن في التاسع والعشرين ، فقيل له : لقد آليت . فقال : الشهر تسع وعشرون .

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام البلقيني في «التدريب» : كل شهر في الشرع فالمراد به الهلال ، إلا شهر المستحاضة وتخليق الحمل .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : قال الصلاح الصفدي -رحمه الله تعالى- : رأيت بعض الفضلاء قد كتبوا بعض الشهور بشهر كذا ، وبعضها لم يكتبوا فيه شهرا ، وطلبت الحكمة في ذلك فلم أجدهم أتوا بشهر إلا مع شهر يكون أوله حرف راء وهو شهر ربيع ، وشهر رجب ، ورمضان ، ولم أدر العلة في ذلك ما هي ، ولا وجه المناسبة؛ لأنه كان ينبغي أن يحذف لفظ شهر من هذه؛ لأنه يجتمع في ذلك راءان .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ رحمه الله تعالى في كتاب «نظم العقيان في أعيان الأعيان» : قد تعرض للمسألة من المتقدمين ابن درستويه فقال في كتابه المتمم : الشهور سجلها مذكرة إلا جمادى ، وليس شيء منها يضاف إليه شهر إلا شهر ربيع ، وشهر رمضان . قلت وقال ابن خطيب الدهشة -رحمه الله تعالى- في «المصباح» : الربيع عند العرب ربيعان ربيع شهور وربيع زمان ، فربيع الشهور اثنان . قالوا : لا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول ، وشهر ربيع الآخر ، بزيادة شهر وتنوين ربيع ، وجعل الأول والآخر وصفا تابعا من الإعراب ويجوز فيه الإضافة . . . ] .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ -رحمه الله تعالى- في كتابه «التاريخ» : قال المتأخرون : ويذكر "شهر" فيما أوله راء ، فيقال : شهر ربيع مثلا ، دون غيره ، فلا يقال : شهر صفر ، والمنقول عن سيبويه جواز إضافة شهر إلى كل الشهور؛ وهو المختار . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الإمام النووي- رحمه الله تعالى [وجاء من الشهور ثلاثة مضافة إلى شهر رمضان ، وشهرا ربيع . . . ] .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع : إنما يؤرخ بالليالي؛ لأن الليلة سابقة على يومها إلا يوم عرفة شرعا ، قال الله تعالى : كانتا رتقا ففتقناهما [الأنبياء 30] . قالوا : ولا يكون مع الارتفاق إلا الظلام؛ فهو سابق على النور . [ ص: 41 ]

                                                                                                                                                                                                                              روي أن أول ما خلق الله تعالى النور والظلمة ، ثم ميز بينهما ، فجعل الظلمة ليلا ، والنور نهارا .

                                                                                                                                                                                                                              وقد ثبت أن القيامة لا تقوم إلا نهارا ، فدل على أن ليلة اليوم سابقة عليه ، إذ كل يوم له ليلة ، وتقدم الكلام على ذلك مبسوطا أول المعراج .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس : قال في «المصباح» أرخت الكتاب بالتثقيل في الأشهر ، والتخفيف لغة حكاها ابن القطاع ، إذ جعلت له تاريخا [وهو معرب ، وقيل : عربي] وهو بيان انتهاء وقته ، ويقال : ورخت على البدل ، والتوريخ قليل الاستعمال .

                                                                                                                                                                                                                              السادس : اختلفوا في لفظ التاريخ هل هو عربي أو معرب .

                                                                                                                                                                                                                              قال صاحب نور المقاييس ، وهو مختصر كتاب «مقاييس اللغة» لابن فارس «تاريخ الكتاب» : ليس عربيا ولا سمع من فصيح .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن فارس في «المجمل» : التواريخ والتاريخ فما تحسبهما عربية .

                                                                                                                                                                                                                              وقال [غيره] : التاريخ لفظ معرب أصله : ماه روز ، وسبب تعريبه أن أبا موسى كتب إلى عمر -رضي الله تعالى عنهما- فذكر ما تقدم فجمع عمر الصحابة واستشارهم في ذلك فقال الهرمزان : إن للعجم حسابا يسمونه ماه روز ينسبونه إلى ما غلب عليهم من الأكاسرة ، فعربوه وقالوا : مؤرخ وجعلوا مصدره التاريخ . واستعملوه في وجوه التصريف ، ثم بين لهم الهرمزان أن كيفية استعماله ، فقال عمر -رضي الله تعالى عنه- : ضعوا تاريخا يتعاملون عليه ، فذكر نحو ما سبق أول الباب .

                                                                                                                                                                                                                              وقال جماعة : هو عربي مشتق من الأرخ بفتح الهمزة وكسرها وهو ولد البقرة الوحشية ، إلا إذا كانت أنثى كانت فتى ، وقال القزاز : الأرخ البقرة التي لم ينز عليها الثيران ، والعرب تشبه بها النساء الخفرات .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو منصور الجواليقي يقال : إن الأرخ الوقت ، والتأريخ : التوقيت .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بري : لم يذهب أحد إلى هذا ، وإنما قال ابن درستويه : اشتقاق [الأرخ من بقر الوحش ، واشتقاق التأريخ واحد؛ لأن الفتى وقت من السن ، والتاريخ] وقت من الزمن .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن بري : وقد أحسن كل الإحسان وجمع الأرخ والتاريخ . [ ص: 42 ]

                                                                                                                                                                                                                              السابع : التاريخ : تعريف الوقت ، وفي الاصطلاح : تعيين وقت ينسب إليه زمان وما بعده .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : هو يوم معلوم ينسب إليه زمان يأتي بعده .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : تعريف الوقت بإسناده إلى أول حدوث أمر شائع من ظهور جولة ، أو وقوع حادثة من طوفان ، أو زلزلة ، أو نحو ذلك من الأبيات .

                                                                                                                                                                                                                              النوع الرابع : في حوادث السنة الأولى غير المغازي والسرايا .

                                                                                                                                                                                                                              فيها صلى الجمعة في طريق بني سالم بن عوف ، وهي أول جمعة صلاها في الإسلام ، وأول خطبة خطبها في الإسلام كما جزم به غير واحد وصاحب العيون .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق والبيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : كانت أول خطبة خطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة ، أنه قام فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : «أما بعد : أيها الناس ، فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك ، فما قدمت لنفسك ، فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا ، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها يجزى الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، والسلام على رسول الله ورحمة الله وبركاته» .

                                                                                                                                                                                                                              ثم خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرة أخرى . فقال : «إن "الحمد" لله ، أحمده وأستعينه ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى ، قد أفلح من زينه الله تعالى في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس أنه أحسن الحديث وأبلغه ، أحبوا من أحب الله ، أحبوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملوا كلام الله تعالى وذكره ، ولا تقس عنه قلوبكم ، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي فقد سماه الله خيرته من الأعمال . ومصطفاه من العباد ، والصالح الحديث ، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، واتقوا الله حق تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ، فإن الله يغضب أن ينكث عهده ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

                                                                                                                                                                                                                              انتهى . [ ص: 43 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن جرير عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي ، أنه بلغه عن خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عمرو بن عوف :

                                                                                                                                                                                                                              «الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه ، وأومن به ، ولا أكفره ، وأعادي من يكفره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة ، على فترة من الرسل ، وقلة من العلم ، وضلالة من الناس وانقطاع من الزمان ، ودنو من الساعة ، وقرب من الأجل ، من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا ، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة ، وأن يأمره بتقوى الله -عز وجل- فاحذروا ما حذركم الله -عز وجل- من نفسه ، ولا أفضل من ذلك نصيحة ، ولا أفضل من ذلك ذكرى ، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة ، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة ، ومن يصلح الذي بينه وبين الله تعالى من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله تعالى يكن له ذكرا ، فإنه من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ، وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته ، وتوقي سخطه ، وإن تقوى الله تبيض الوجه ، وترضي الرب ، وترفع الدرجة ، خذوا بحظكم ، ولا تفرطوا في جنب الله ، قد علمكم الله كتابه ، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين ، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم وعادوا أعداءه ، وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، ولا قوة إلا بالله ، فأكثروا ذكر الله ، واعملوا لما بعد الموت ، فإنه من أصلح ما بينه وبين الله تعالى يكفه ما بينه وبين الناس ، ذلك بأن الله يقضي على الناس ، ولا يقضون عليه ، ويملك من الناس ولا يملكون منه ، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» .


                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية