الباب الرابع في حكم أقواله الدنيوية من إخباره عن أحواله وأحوال غيره وما يفعله أو فعله صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي : وأما أقواله الدنيوية من إخباره عن أحوال غيره وما يفعله أو فعله الخلف فيها ممتنع عليه في كل حال ، وعلى أي وجه ، من عمد أو سهو ، أو صحة أو مرض ، أو رضا أو غضب ، وأنه معصوم منه صلى الله عليه وسلم .
هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق والكذب ، فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه في الأمور الدنيوية لا سيما لقصد المصلحة ، كتوريته عن وجه مغازيه؛ لئلا يأخذ العدو حذره .
وكما روي من وتأكيدا في تحببهم ومسرة نفوسهم ، ممازحته ودعابته لبسط أمته وتطييب قلوب المؤمنين من صحابته ،
كقوله : لأحملنك على ابن الناقة .
وقوله للمرأة التي سألته عن زوجها : أهو الذي بعينه بياض .
وهذا كله صدق؛ لأن كل جمل ابن ناقة ، وكل إنسان بعينه بياض .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : إني لأمزح ولا أقول إلا حقا .
هذا كله فيما بابه الخبر ، فأما ما بابه غير الخبر مما صورته صورة الأمر والنهي في الأمور الدنيوية فلا يصح منه أيضا ، ولا يجوز عليه أن يأمر أحدا بشيء أو ينهى أحدا عن شيء وهو يبطن خلافه .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين ، فكيف أن تكون له خيانة قلب .
((فإن قلت)) : فما معنى إذا قوله تعالى في قصة زيد : وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه . . .
فاعلم- أكرمك الله ، ولا تسترب في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الظاهر ، وأن يأمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها .
وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير
عن علي بن حسين- أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه ، فلما شكاها إليه زيد قال له : أمسك عليك زوجك ، واتق الله . وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وتطليق زيد لها . [ ص: 11 ]
وروى نحوه عمرو بن فائد ، عن قال : الزهري ، نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أن الله يزوجه فذلك الذي أخفى في نفسه . زينب بنت جحش ،
ويصحح هذا قول المفسرين في قوله تعالى بعد هذا : وكان أمر الله مفعولا ؛ أي : لا بد لك أن تتزوجها .
ويوضح هذا أن الله لم يبد من أمره معها غير زواجه لها ، فدل أنه الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم مما كان أعلمه به تعالى .
وقوله تعالى في القصة : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له * سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا .
فدل أنه لم يكن عليه حرج في الأمر .
قال ما كان الله ليؤثم نبيه فيما أحل مثال فعله لمن قبله من الرسل ، قال الله تعالى : الطبري : سنة الله في الذين خلوا من قبل ؛ أي : من النبيين فيما أحل لهم ، ولو كان على ما روي في حديث من وقوعها من قلب النبي صلى الله عليه وسلم عند ما أعجبته ، ومحبته طلاق زيد لها لكان فيه أعظم الحرج ، وما لا يليق به من مد عينيه لما نهي عنه من زهرة الحياة الدنيا ، ولكان هذا نفس الحسد المذموم الذي لا يرضاه ولا يتسم به الأتقياء ، فكيف سيد الأنبياء ؟ قتادة
قال القشيري : وهذا إقدام عظيم من قائله ، وقلة معرفة بحق النبي صلى الله عليه وسلم وبفضله .
وكيف يقال : رآها فأعجبته وهي بنت عمته ، ولم يزل يراها منذ ولدت ، ولا كان النساء يحتجبن منه صلى الله عليه وسلم ، وهو زوجها لزيد ، وإنما زيد لها ، وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياها ، لإزالة حرمة التبني ، وإبطال سنته ، كما قال : جعل الله طلاق ما كان محمد أبا أحد من رجالكم . وقال : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم .
ونحوه لابن فورك .
وقال فإن قيل : فما الفائدة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبو الليث السمرقندي : لزيد بإمساكها ؟ فهو أن الله أعلم نبيه أنها زوجته ، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن طلاقها ، إذ لم تكن بينهما ألفة ، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به ، فلما طلقها زيد خشي قول الناس : يتزوج امرأة ابنه ، فأمره الله بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته ، كما قال تعالى : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا .
وقد قيل : كان أمره لزيد بإمساكها قمعا للشهوة ، وردا للنفس عن هواها . وهذا إذا جوزنا عليه أنه رآها فجأة واستحسنها . ومثل هذا لا نكرة فيه ، لما طبع عليه ابن آدم من استحسان [ ص: 12 ] للحسن ، ثم قمع نفسه عنها ، وأمر زيدا بإمساكها ، وإنما تنكر تلك الزيادات التي في القصة . والتعويل والأولى ما ذكرناه عن علي بن حسين ، وحكاه ونظرة الفجاءة معفو عنها ، السمرقندي ، وهو قول ابن عطاء ، وصححه واستحسنه القاضي القشيري ، وعليه عول أبو بكر بن فورك ، وقال : إنه معنى ذلك عقد المحققين من أهل التفسير ، قال : والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن استعمال النفاق في ذلك ، وإظهار خلاف ما في نفسه ، وقد نزهه الله عن ذلك بقوله تعالى : ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له قال : ومن ظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ .
قال : وليس معنى الخشية هنا الخوف ، وإنما معناه الاستحياء ، أي : يستحي منهم أن يقولوا : تزوج زوجة ابنه .
وأن خشيته صلى الله عليه وسلم من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود وتشغيبهم على المسلمين بقولهم : تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء ، كما كان ، فعاتبه الله على هذا ، ونزهه عن الالتفات إليهم فيما أحله له ، كما عتبه على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله : لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم .
وكذلك قوله له ها هنا : وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه .
وقد روي عن الحسن لو كتم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا كتم هذه الآية ، لما فيه من عتبة وإبداء ما أخفاه . [ ص: 13 ] وعائشة :