الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 322 ] الباب السادس عشر في بعض فضائل أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله تعالى عنه-

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أنواع :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : في نسبه وصفته- رضي الله تعالى عنه-

                                                                                                                                                                                                                              هو أبو عبيدة بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن وهيب وفي لفظ : أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر بن مالك الملقب بأمين هذه الأمة يلتقي مع النبي- صلى الله عليه وسلم- في مالك .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ ابن عساكر : وكان طويلا نحيفا أجنأ معروق الوجه خفيف اللحية أهتم .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : في بعض فضائله- رضي الله تعالى عنه-

                                                                                                                                                                                                                              فهو أحد العشرة ، وأحد الرجلين اللذين عينهما ، أبو بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه- وأحد الخمسة الذين أسلموا في يوم واحد على يد الصديق ، والأربعة عثمان بن مظعون وعيينة ابن الحارث ، وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد ، وآخى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن معاذ ، وقيل : محمد بن سلمة ، وقد شهد بدرا والمشاهد كلها ، وثبت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم أحد ، ونزع يومئذ بفيه الحلقتين اللتين دخلتا في وجنتي النبي- صلى الله عليه وسلم- من حلق المغفر فوقعت ثنيتاه فكان من أحسن الناس هتما .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ ابن عساكر : وهو أول من سمي أمير الأمراء ، وأنزل الله تعالى فيه لما قتل أباه يوم بدر ، حيث تصدى له وحاد عنه مرارا لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [الآية] ومما قاله :


                                                                                                                                                                                                                              ألا رب مبيض لثيابه ومديس لدينه     ألا رب مكرم لنفسه
                                                                                                                                                                                                                              وهو لها مهين     بادروا السيئات القديمات
                                                                                                                                                                                                                              بالحسنات الحديثات

                                                                                                                                                                                                                              فلو أن أحدكم عمل من السيئات ما بينه وبين السماء ثم عمل حسنة لعلت فوق سيئاته حتى تقهرهن ، وقال : مثل المؤمن مثل العصفور يتقلب كل يوم كذا وكذا مرة ، وله مع المشركين غزوات كبيرة ، ووقعات كثيرة ، منها وقعة حمص الأولى .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني برجال ثقات إلا مالك ، فيحرر رجاله عن مالك الدار أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه- أخذ أربعمائة دينار ، فجعلها في صرة فقال للغلام : اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم ابق في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع ، فذهب بها الغلام إليه ، فقال : يقول لك أمير المؤمنين : اجعل هذه في بعض حاجاتك ، فقال : وصله الله ورحمه ثم [ ص: 323 ]

                                                                                                                                                                                                                              قال : تعالي أنت يا جارية ، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن أنس وابن عساكر عن أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه- وابن أبي شيبة عن أبي قلابة ، والإمام أحمد عن عمر - رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : «إن لكل أمة أمينا ، وإن أمين هذه الأمة» وفي لفظ : «وإن أمينك أيتها الأمة» - وفي لفظ : «لكل نبي أمين وأميني» أبو عبيدة بن الجراح .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عساكر عن أبي بكر الصديق وابن عساكر عن محمد بن المنكدر (مرسلا ) وعن داود بن شابور أبي سليمان وابن عساكر . وتمام عن سعيد بن عبد العزيز مرسلا ، وابن أبي شيبة والحاكم عن الحسن مرسلا وابن عساكر عن زياد بن الأعلم عن الحسن مرسلا وابن عساكر عن مبارك بن فضالة عن الحسن مرسلا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : «ما من أصحابي» وفي لفظ : «أحد» إلا كنت قائلا فيه ، وفي لفظ ، «وفي خلقه» ، وفي لفظ : «في بعض خلقه» ، وفي لفظ : «أن أقول في خلقه» ، وفي لفظ : «إلا وقد وجدت فيه» ، ولو شئت أن أقول فيه ، وفي لفظ : «ألا ولو شئت لأخذت عليه» إلا أبا عبيدة ، وفي لفظ : «إلا ما كان من أبي عبيدة بن الجراح » ، وفي لفظ : «غير أبي عبيدة بن الجراح » .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم عن أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «يا أبا عبيدة ، لا تأمن على أحد بعدي» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان عن حذيفة - رضي الله تعالى عنه- قال : جاء أهل نجران إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا : يا رسول الله ابعث إلينا رجلا أمينا ، فقال : لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين ، قال : فاستشرف لها الناس ، فبعث أبا عبيدة بن الجراح .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : في وفاته- رضي الله تعالى عنه- .

                                                                                                                                                                                                                              توفي بالطاعون عام عمواس هو ومعاذ بن جبل ، ويزيد بن أبي سفيان وغيرهم من أشراف الصحابة- رضي الله تعالى عنهم- ووقع ذلك الطاعون مرتين وطال مكثه وفني فيه خلق كثير من الناس ، وطمع العدو ، وتخوف المسلمون بذلك ، وقبره بغور بيسان عند قرية تسمى عمتا . قال الشيخ محي الدين النووي : وعلى قبره من الجلالة ما هو لائق به ، وقد زرته فرأيت عنده عجبا ، وصلى عليه معاذ بن جبل ، ونزل في قبره هو ، وعمرو بن العاص ، والضحاك ابن مزاحم . [ ص: 324 ]

                                                                                                                                                                                                                              وعمواس بلدة صغيرة بين الرملة وبيت المقدس ، ونسب [الطاعون] إليها ، لأنه أول ما نجم من هذا الدار ثم انتشر إلى الشام .

                                                                                                                                                                                                                              ومن مناقبه ما روي عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه- أنه قال لأصحابه ذات يوم : تمنوا ، فقال رجل : أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله ، ثم قال : تمنوا ، فقال رجل : أتمنى لو كانت مملوءة لؤلؤا وزبرجدا وجوهرا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به ، ثم قال : تمنوا ، فقالوا : ما ندري يا أمير المؤمنين ؟ فقال عمر : أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح .

                                                                                                                                                                                                                              [عن عروة بن الزبير قال] : لما قدم عمر الشام تلقاه الناس وعظماء أهل الأرض ، وهو راكب فقال : أين أخي وقرة عيني ، قالوا : من تعني ؟ قال : أبا عبيدة بن الجراح ، قالوا : الآن يأتيك ، فلما أتاه ، نزل فاعتنقه ثم دخل عليه بيته فلم يرى فيه إلا سيفه وترسه ورحله ، فقال له عمر : ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، هذا يبلغني المقيل . [ ص: 325 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية