الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب الخامس عشر في بنيان قريش الكعبة

                                                                                                                                                                                                                              وكان بناؤهم لها لأمور :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : توهينها من الحريق الذي أصابها ، وذلك أن امرأة جمرت الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن السيل دخلها وصدع جدرانها بعد توهينها .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : أن نفرا سرقوا حلي الكعبة وغزالين من ذهب . وقيل غزال واحد مرصع بدر وجوهر وكان في بئر في جوف الكعبة ، وكان الذي وجد عنده دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة فقطعت قريش يده . وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك .

                                                                                                                                                                                                                              فأرادوا أن يشدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا ، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم اسمه باقوم- بباء موحدة فقاف مضمومة- وكان بانيا فتحطمت ، فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها وكلموا الرومي باقوم فقدم معهم فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيف الكعبة .

                                                                                                                                                                                                                              قال الأموي : كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم تحمل له آلات البناء من الرخام والخشب والحديد ، سرحها قيصر مع باقوم إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس بالحبشة ، فلما بلغت مرساها من جدة بعث الله تعالى عليها ريحا فحطمتها .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : وكان بمكة رجل قبطي نجار ، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها ، وكانت حية عظيمة تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها فتشرق على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون ذلك أنه لا يدنو منها أحد إلا اخزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها .

                                                                                                                                                                                                                              وحكى السهيلي عن رزين أن سارقا دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها فانهار البئر عليه حتى جاءوا فأخرجوه وأخذوا ما كان أخذه . ثم سكنت البئر حية كرأس الجدي وبطنها أبيض وظهرها أسود . فأقامت فيه خمسمائة سنة ، وهي التي ذكرها ابن إسحاق .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عقبة : وزعموا أنها إذا أحاطت بالبيت كان رأسها عند ذنبها .

                                                                                                                                                                                                                              فبينا هي ذات يوم تشرق على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله تعالى طائرا فاختطفها فذهب بها فقالتقريش عند ذلك : إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب ، وقد كفانا الله تعالى الحية .

                                                                                                                                                                                                                              فلما أجمعوا أمرهم في أمرها وبنيانها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ . قال ابن إسحاق :

                                                                                                                                                                                                                              ابن عبد بن عمران . وقال ابن هشام : عائذ بن عمران ثم اتفقا فقالا : ابن مخزوم . وهو خال أبي . [ ص: 170 ]

                                                                                                                                                                                                                              رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شريفا فتناول حجرا من الكعبة فوثب من يده حتى رجع إلى مكانه فقال :

                                                                                                                                                                                                                              يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس .

                                                                                                                                                                                                                              وبعض الناس ينحل هذا الكلام إلى الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم .

                                                                                                                                                                                                                              ثم إن قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة . وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم . وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم ، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ، ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب ، وهو الحطيم . فأمروا بالحجارة تجمع وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم .

                                                                                                                                                                                                                              روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال : لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة . ففعل وكان ذلك قبل أن يبعث فخر إلى الأرض فطمحت عيناه إلى السماء فقال : إزاري . فشده عليه . وفي رواية : فسقط مغشيا عليه فما رئي بعد عريانا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عبد الرزاق والطبراني والحاكم عن أبي الطفيل رضي الله تعالى عنه قال : كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر ، وكانت قدر ما تقتحمها العناق ، وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا ، وكانت ذات ركنين كهيئة هذه الحلقة فأقبلت سفينة من الروم حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت فخرجت قريش لتأخذ خشبها فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا ، فقدموا به وبالخشب ليبنوا به البيت فكانوا كلما أرادوا القرب منه لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها ، فبعث الله تعالى طيرا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها فألقاها نحو أجياد ، فهدمت قريش الكعبة وبنوها بحجارة الوادي فرفعوها في السماء عشرين ذراعا ، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها فنودي : يا محمد خمر عورتك . فلم ير عريانا بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن إسحاق : ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه . فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها . فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول : اللهم لم ترع . ويقال لم نرع ، اللهم لا نريد إلا الخير . ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناس تلك الليلة وقالوا : ننتظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء هدمنا فقد رضي الله تعالى ما صنعنا . فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى [ ص: 171 ] الأساس أساس إبراهيم صلى الله عليه وسلم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها ببعض ، فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منها ليقلع بها بعضها فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل فانتهوا عن ذلك الأساس .

                                                                                                                                                                                                                              ووجدت قريش في الركن كتابا بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو : أنا الله ذو بكة ، خلقتها يوم خلقت السماوات والأرض وصورت الشمس والقمر ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا يزول أخشباها يبارك لأهلها في الماء واللبن .

                                                                                                                                                                                                                              ووجدوا في المقام كتابا فيه : مكة الله الحرام يأتيها من ثلاثة سبل ، لا يحلها أول من أهلها .

                                                                                                                                                                                                                              ووجدوا آخر مكتوبا فيه : من يزرع خيرا يحصد غبطة ومن يزرع شرا يحصد ندامة تعملون السيئات وتجزون الحسنات أجل كما يجتنى من الشوك العنب .

                                                                                                                                                                                                                              ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوزوا وتحالفوا وأعدوا للقتال ، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسموا لعقة الدم .

                                                                                                                                                                                                                              فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد ، فتشاوروا وتناصفوا ، فزعم بعض أهل الرواية أنأبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلها قال : يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم . فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين .

                                                                                                                                                                                                                              رضينا ، هذا محمد . فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم : هلم إلي ثوبا . فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا . ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين .

                                                                                                                                                                                                                              قال في «الزهر» و «الإشارة» : وكان ذلك في يوم الاثنين .

                                                                                                                                                                                                                              وروى يعقوب بن سفيان عن ابن شهاب أن قريشا لما بنوا الكعبة فبلغوا موضع الركن اختصمت في الركن أي القبائل تلي رفعه فقالوا : نحكم أول من يطلع علينا . فطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أخرج سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فوضعه هو ، ثم طفق لا يزداد على السن إلا رضا حتى دعوه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي ، فطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها . [ ص: 172 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن سعد وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : لما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن ذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلى الله عليه وسلم حجرا يشد به الركن فقال العباس : لا . وناول العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرا فشد به الركن فغضب النجدي وقال : وا عجبا لقوم أهل شرف وعقول وأموال عمدوا إلى رجل أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم كأنهم خدم له! أما والله ليفرقنهم شيعا وليقسمن بينهم حظوظا وجدودا .

                                                                                                                                                                                                                              فيقال إنه إبليس- زاد غيره : فكاد يثير شرا فيما بينهم ثم سكنوا .


                                                                                                                                                                                                                              وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي حين جعلت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما :


                                                                                                                                                                                                                              تشاجرت الأحياء في فصل خطة جرت طيرهم بالنحس من بعد أسعد     تلاقوا لها بالبغض بعد مودة
                                                                                                                                                                                                                              وأوقد نارا بينهم شر موقد     فلما رأينا الأمر قد جد جده
                                                                                                                                                                                                                              ولم يبق شيء غير سل المهند     رضينا وقلنا العدل أول طالع
                                                                                                                                                                                                                              يجيء من البطحاء عن غير موعد     فلم يفجنا إلا الأمين محمد
                                                                                                                                                                                                                              فقلنا رضينا بالأمين محمد     بخير قريش كلها أمر ديمة
                                                                                                                                                                                                                              وفي اليوم مع ما يحدث الله في الغد     فجاء بأمر لم ير الناس مثله
                                                                                                                                                                                                                              أعم وأرضى في العواقب والبدي     أخذنا بأكناف الرداء وكلنا
                                                                                                                                                                                                                              له حصة من رفعه قبضة اليد     فقال ارفعوا حتى إذا ما علت به
                                                                                                                                                                                                                              أكف إليه فسر في خير مسند     وكان رضينا ذاك عنه بعينه
                                                                                                                                                                                                                              وأعظم به من رأي هاد ومهتد     لتلك يد منه علينا عظيمة
                                                                                                                                                                                                                              يروح بها ركب العراق ويغتدي

                                                                                                                                                                                                                              ولما بنت قريش الكعبة جعلت ارتفاعها من خارجها من أعلاها إلى الأرض ثمانية عشر ذراعا ، منها تسعة أذرع زائدة على طولها حين عمرها الخليل صلى الله عليه وسلم واقتصروا من عرضها أذرعا جعلتها في الحجر لقصر النفقة الحلال التي أعدوها لعمارة الكعبة عن إدخال ذلك فيها ، ورفعوا بابها ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، وجعلوا في داخلها ست دعائم في صفين ، ثلاث في كل صف من الشق الذي يلي الحجر إلى الشق اليماني وجعلوا في ركنها الشامي من داخلها درجة يصعد منها إلى سطحها وجعلوه مسطحا وجعلوا فيه ميزابا يصب في الحجر .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية