الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيه

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو حفص بن شاهين في الناسخ والمنسوخ من طريق أحمد بن يحيى الحضرمي ، والمحب الطبري في سيرته من طريق القاضي أبي بكر محمد بن عمر بن محمد بن الأخضر ، والدارقطني وابن عساكر كلاهما في غرائب مالك ، والخطيب في السابق واللاحق من طريق علي بن أيوب الكعبي ، قالوا : حدثنا أبو غزية محمد بن يحيى الزهري ، حدثنا عبد الوهاب بن موسى الزهري . قال الحضرمي وابن الأخضر عن عبد الرحمن بن أبي الزناد . وقال الكعبي عن مالك بن أنس ، قالا عن هاشم بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم فبكيت لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه طفق يقول : يا حميراء استمسكي .

                                                                                                                                                                                                                              فاستندت إلى جنب البعير فمكث عني طويلا ثم عاد إلي وهو فرح مبتسم فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك ثم إنك عدت إلي وأنت فرح مبتسم فمم ذاك ؟ قال : ذهبت لقبر أمي فسألت الله أن يحييها فأحياها فآمنت بي وردها الله
                                                                                                                                                                                                                              . [ ص: 123 ]

                                                                                                                                                                                                                              تفرد بهذا الحديث أبو غزية وتفرد عنه الكعبي بذكر مالك في إسناده . قال الدارقطني :

                                                                                                                                                                                                                              هذا كذب على مالك والحمل فيه على أبي غزية والمتهم بوضعه هو أو من حدث به عنه .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا الحديث قد حكم بوضعه الحافظ أبو الفضل بن ناصر والجوزقاني وابن الجوزي والذهبي وأقره الحافظ في اللسان ، وحكم بوضعه جماعة سبق ذكرهم في ترجمة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم . وجعله ابن شاهين ومن تبعه ناسخا لأحاديث النهي عن الاستغفار .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وهذا غير جيد لأن أحاديث النهي عن الاستغفار لهما بعض طرقها صحيح . رواه مسلم وابن حبان في صحيحيهما وهذا الحديث على تسليم ضعفه لا يكون ناسخا للأحاديث الصحيحة والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو الخطاب بن دحية : الحديث في إحياء أبيه وأمه موضوع يرده القرآن والإجماع قال تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار [النساء 18] وقال : فيمت وهو كافر [البقرة 217] فمن مات وهو كافر لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ، فكيف بعد الإعادة ؟ وفي التفسير أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ليت شعرى ما فعل أبواي ؟» .

                                                                                                                                                                                                                              فنزلت ولا تسأل عن أصحاب الجحيم


                                                                                                                                                                                                                              [البقرة 119] .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : لو اقتصر أبو الخطاب على الحكم بوضع الحديث فقط وسكت عما ذكره لكان جيدا وتأدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم- في حق أبويه . وقد تعقبه القرطبي فقال : وفيما ذكره ابن دحية نظر . وذلك أن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتتابع إلى حين مماته فيكون هذا مما فضله تعالى وأكرمه به ، وليس إحياؤهما وإيمانهما به ممتنعا عقلا ولا شرعا ، فقد ورد في الكتاب العزيز إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله وكان عيسى صلى الله عليه وسلم يحيي الموتى وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا الله تعالى على يديه جماعة من الموتى . وإذا ثبت هذا فما يمتنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته وفضيلته مع ما ورد من الخبر في ذلك ويكون مخصوصا ممن مات كافرا .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : «فمن مات كافرا» إلى آخر كلامه مردود بما في الخبر أن الله رد الشمس على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد مغيبها حتى صلى علي العصر . ذكره الطحاوي وقال إنه حديث ثابت . فلو لم [ ص: 124 ] يكن رجوع الشمس نافعا وأنه لا يتجدد الوقت لما ردها عليه ، فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قبل الله تعالى إيمان قوم يونس وتوبتهم مع تلبسهم بالعذاب كما هو أحد الأقوال وهو ظاهر القرآن .

                                                                                                                                                                                                                              وأما الجواب عن الآية فيكون ذلك قبل إيمانهما وكونهما في العذاب . انتهى كلام القرطبي . ونقله الحافظ في شرح الدرر ملخصا له . وأقره .

                                                                                                                                                                                                                              قال الشيخ رحمه الله : استدلاله على عدم تجدد الوقت بقصة رجوع الشمس في غاية الحسن ولهذا حكم بكون الصلاة أداء وإلا لم يكن لرجوعها فائدة إذ كان يصح قضاء العصر بعد الغروب . قال : وقد ظفرت باستدلال أوضح منه ، وهو ما ورد أن أصحاب الكهف يبعثون آخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الأمة تشريفا لهم بذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا : أصحاب الكهف أعوان المهدي .

                                                                                                                                                                                                                              رواه ابن مردويه في التفسير . فقد اعتد بما يفعله أصحاب الكهف بعد حياتهم عن الموت . ولا بدع في أن يكون الله تعالى كتب لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم عمرا ثم قبضهما قبل استيفائه ثم أعادهما لاستيفاء تلك اللحظة الباقية وآمنا فيها فيعتد به ويكون تأخير تلك البقية بالمدة الفاصلة بينهما لاستدراك الإيمان ، من جملة ما أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، كما أن تأخير أصحاب الكهف هذه المدة من جملة ما أكرموا به ، فيحوزون شرف الدخول في هذه الأمة .

                                                                                                                                                                                                                              وأما حديث : ليت شعري ما فعل أبواي» فإنه معضل ضعيف لا تقوم به حجة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحافظ ابن سيد الناس في «العيون» بعد أن ذكر أنه روى أن الله تعالى أحيا أبويه فآمنا به قال : وهو مخالف لما أخرجه أحمد عن أبي رزين العقيلي قال : قلت : يا رسول الله أين أمي ؟ قال : أمك في النار . قلت : فأين من مضى من أهلك ؟ قال : أما ترضى أن تكون أمك مع أمي .

                                                                                                                                                                                                                              قال : وذكر بعض أهل العلم في الجمع بين هذه الروايات ما حاصله : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل راقيا في المقامات السنية صاعدا إلى الدرجات العلية إلى أن قبض الله روحه الطاهرة لديه وأزلفه بما خصه به لديه من كرامة القدوم عليه ، فمن الجائز أن تكون هذه كرامة حصلت له صلى الله عليه وسلم بعد أن لم تكن وأن يكون الإحياء والإيمان متأخرا عن تلك الأحاديث ، فلا تعارض .

                                                                                                                                                                                                                              انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية