تنبيهات :
الأول : قال الحافظ : وجه التشبيه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق ، ما رواه الحارث بن أبي أسامة في هذا الحديث من وجه آخر ، عن ولفظه قال : ابن عمر ، قالوا : لا ، قال : «هي النخلة ، لا تسقط لها أنملة ، ولا يسقط للمؤمن دعوة» . «إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة ، أتدرون ما هي ؟ » كنا عند [ ص: 140 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال :
ووقع عند المصنف في باب الأطعمة من طريق قال : حدثني الأعمش ، عن مجاهد ، قال : ابن عمر ، بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجمار ، فقال : إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم .
وهذا أعم من الذي قبله ، وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها ، مستمرة في جميع أحوالها ، فمن حين تطلع إلى أن تيبس ، يؤكل أنواعا ، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها ، حتى النوى في علف الدواب ، والليف في الحبال وغير ذلك ، وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال وغيرها ، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته .
ثم قال : قال موقع التشبيه بينهما من جهة أن دين المسلم ثابت ، وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب ، وأنه لا يزال مستورا بدينه ، وأنه ينتفع بكل ما صدر منه حيا وميتا . انتهى . القرطبي :
وقال غيره : والمراد بكون فرع المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله .
وروى من طريق البزار سفيان بن حسن ، عن أبي بشر ، عن عن مجاهد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عمر ، هكذا أورده ، وإسناده صحيح ، وقد أفصح بالمقصود بأوجز عبارة . مثل المؤمن مثل النخلة ، ما أتاك منها نفعك .
وأما من زعم أن موقع التشبيه من جهة كون النخلة إذا وقع رأسها ماتت ، أو أنها لا تحمل حين تلقح ، أو أنها تموت إذا غرقت ، أو لأن لطلعها رائحة مني الآدميين ، أو لكونها تعشق ، أو لكونها تشرب من أعلاها ، فكلها أوجه ضعيفة؛ لأن جميع ذلك من المتشابهات مشترك بالآدميين ، لا يختص بالمسلم .
وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خلقت من فضلة طين آدم؛ فإن الحديث في ذلك لم يثبت .
وقول سيدنا عمر : «أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا» زاد في صحيحه : أحسبه قال : «حمر النعم» وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم ابن حبان امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى من تبليغه لهم إن لم يفهموه .
وأما ما رواه من حديث أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه معاوية قال نهى عن الأغلوطات ، أحد رواته : هي صعاب المسائل - أن ذلك محمول على ما لا نفع فيه ، أو ما خرج على سبيل تعنت المسؤول ، أو تعجيزه ، وفيه التحريض على الأوزاعي وفيه دليل على بركة النخلة وما تثمره ، وفيه دليل على أن بيع الجمار جائز؛ لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه ، وفيه دليل على الفهم في العلم ، وفيه ضرب من الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام ، وتصوير المعاني؛ لترسخ في الذهن ، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة ، وفيه إشارة إلى أن تشبيه [ ص: 141 ] الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره في جميع وجوهه؛ فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله ، وفيه توقير الكبير ، وتقديم الصغير أباه في القول ، وأنه لا يبادره بما فهمه ، وإن ظن أنه الصواب ، وفيه أن جواز تجمير النخل ، العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه؛ لأن العلم مواهب ، والله يؤتي فضله من يشاء .
واستدل به مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله ، وذلك مستفاد من تمني عمر المذكور ، ووجه تمني عمر ما طبع الإنسان عليه من محبة الخير لنفسه ولولده ، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم في صغره ، وليزداد من النبي صلى الله عليه وسلم حظوة ، ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم ، وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر؛ لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم ، مع عظيم مقدارها وغلاء ثمنها . انتهى كلام الحافظ مع تقديم وتأخير .
الثاني : قوله «يتخولنا» بالخاء المعجمة أي : يتعهدنا .
والموعظة : النصح والتذكير ، قال الحافظ : قال الخائل : بالخاء المعجمة هو القائم المتعهد للمال ، يقال : خال المال يخوله تخولا إذا تعهده وأصلحه ، والمعنى : كان يراعي الأوقات في تذكيره ، ولا يفعل ذلك كل يوم؛ لئلا نمل ، والتخون بالنون أيضا . وحكى الهروي في الغريبين : يتحولنا -بالحاء المهملة- أي : يتطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة . الخطابي :
قلت : والصواب من حيث الرواية الأول .
وقوله : «علينا» أي : الطارئة علينا ، أو ضمن السآمة معنى المشقة ، فعداها بعلى ، والصلة محذوفة ، والتقدير : من الموعظة .
الثالث : قوله : «الفتيا» قال الحافظ : (بضم الفاء) ، فإن قلت : الفتوى فتحتها ، والمصادر الآتية بوزن فتيا قليلة ، مثل : تقيا ورجعى ، وقوله : فجاءه رجل ، لم أعرف اسم هذا السائل ولا الذي بعده ، والظاهر أن الصحابي لم يسم أحدا لكثرة من سأل إذ ذاك .
وقوله : «ولا حرج» أي : لا شيء عليك من الإثم لا في الترتيب ولا في ترك الفدية ، هذا ظاهر . وقول بعض الفقهاء : المراد في الإثم فقط ، وفيه نظر؛ لأن في بعض الروايات الصحيحة : ولم يأمر بكفارة .
الرابع : قوله : «لا أكاد أدرك الصلاة» قال الحافظ : قال ظاهره مشكل ، إذ [ ص: 142 ] التطويل يقتضي الإدراك لا عدمه ، قال : فكأن الألف زيدت بعد «لا» قلت : هو توجيه حسن لو ساعدته الرواية . القاضي عياض :
وقال أبو الزناد بن سراج : معناه أنه كان به ضعف ، وكان إذا طول به الإمام في القيام لا يبلغ الركوع إلا وقد ازداد ضعفه ، فلا يكاد يتم معه الصلاة .
قلت : وهو معنى حسن ، لكن رواه المصنف عن عن الفريابي سفيان بهذا الإسناد بلفظ : «إني لأتأخر عن الصلاة» أي : لا أقرب من الصلاة في الجماعة بل أتأخر أحيانا من أجل التطويل .
الخامس : قوله «لم يبلغوا الحنث» قال الحافظ : المعنى أنهم قد ماتوا قبل أن يبلغوا؛ لأن الإثم إنما يكتب بعد البلوغ ، فكأن السر فيه إنما أنه لا ينسب إليهم إذ ذاك عقوق ، فيكون الحزن عليهم .
وفي الحديث وجواز كلام النساء مع الرجال في ذلك ، وفيه جواز الوعد ، وأن ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعاليم من أمور دينهم ، وأن من له ولدان حجباه من النار ، ولا اختصاص لذلك بالنساء . انتهى . وكذلك لم يبلغ الحنث . أطفال المسلمين في الجنة ،
السادس : قوله «صدقا» قال الحافظ ، احتراز من شهادة المنافق . قال الطيبي : «صدقا» هنا أقيم مقام الاستقامة؛ لأن الصدق يعبر عنه قولا من مطابقة القول المخبر عنه ، ويعبر به فعلا عن تحري الأخلاق المرضية ، كقوله تعالى : والذي جاء بالصدق وصدق به [الزمر : 33] أي : خفف ما أورده قولا بما تحراه فعلا . انتهى .
وأراد بهذا التقرير رفع الإشكال عن ظاهر الخبر؛ لأنه يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار؛ لما فيه من التعميم والتأكيد ، لكن دلت الأدلة القطعية عند أهل السنة على أن طائفة من عصاة المؤمنين يعذبون ، ثم يخرجون من النار بالشفاعة ، فعلم أن ظاهره غير مراد ، فكأنه قال : إن ذلك مقيد بمن عمل الأعمال الصالحة ، ولأجل خفاء ذلك لم يؤذن في التبشير به .
وقد أجاب العلماء عن الإشكال أيضا بأجوبة أخرى :
منها : أن مطلقه مقيد بمن قالها تاما ، ثم مات على ذلك .
ومنها : أن ذلك كان قبل نزول أكثر الفرائض ، وفيه نظر؛ لأن مثل هذا الحديث وقع كما رواه لأبي هريرة ، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض ، وكذا أورد نحوه من حديث مسلم ، رواه أبي موسى ، بإسناد حسن ، وكان قدومه في السنة التي قدم فيها أحمد أبو هريرة .
ومنها : أنه خرج مخرج الغالب؛ إذ الغالب أن الموحد يعمل الطاعة ، ويجتنب المعصية .
ومنها : أن المراد بتحريمه على النار تحريم خلوده فيها لا أصل دخولها .
ومنها : أن المراد بالنار التي أعدت للكافرين لا الطبقة التي أفردت لعصاة الموحدين .
[ ص: 143 ] ومنها : أن المراد بتحريمه على النار حرمة جملته؛ لأن (المراد) أن النار لا تأكل موضع السجود من المسلم ، كما ثبت في حديث الشفاعة أن ذلك محرم عليها ، وكذا لسانه الناطق بالتوحيد . والعلم عند الله .
وقوله : «إذا يتكلوا» -بتشديد المثناة المفتوحة وكسر الكاف- وهو جواب وجزاء ، أي : إن أخبرتهم يتكلوا ،وللأصيلي وللكشميهني «ينكلوا» بإسكان النون وضم الكاف ، أي يمتنعوا من العمل اعتمادا على ما يتبادر من ظاهره .
وروى بإسناد حسن من حديث البزار -رضي الله عنه- في هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن أبي سعيد الخدري في التبشير ، فلقيه لمعاذ فقال : لا تعجل ، ثم دخل ، فقال : يا نبي الله ، أنت أفضل رأيا ، إن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها قال : فرده . عمر ،
وهذا معدود من وفيه جواز موافقات عمر -رضي الله تعالى عنه- الاجتهاد بحضرته صلى الله عليه وسلم .
واستدل بعض متكلمي الأشاعرة من قوله «يتكلوا» على أن للعبد اختيارا كما سبق في علم الله .
وقوله «تأثما» هو بفتح الهمزة وتشديد المثلثة المضمومة ، أي : خشية الوقوع في الإثم الحاصل في كتمان العلم ، ودل صنع معاذ على أن النهي في التبشير كان على التنزيه لا على التحريم ، وإلا لما كان يخبر به أصلا ، أو عرف أن النهي مقيد بالإشكال ، وأخبر به من لا يخشى عليه ذلك ، وإذا زال القيد زال المقيد ، والأول أوجه؛ لكونه أخر ذلك إلى وقت موته . وقال لعل مراد القاضي عياض : «معاذ» لم يفهم النهي ، لكن كسر عزمه عما عرض له من تبشيرهم .
قلت : والرواية الآتية صريحة في النهي ، فالأولى ما تقدم .
وفي الحديث جواز الإرداف ، وإثبات ومنزلة تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ، من العلم؛ لأنه خصه بما ذكر ، وفيه جواز استفسار الطالب عما تردد فيه ، واستئذانه في إشاعة ما يعلم به وحده . معاذ بن جبل
وقوله «من لقي الله» أي : من لقي الأجل الذي قدره الله ، يعني الموت ، وقوله : «لا يشرك به» اقتصر على نفي الإشراك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله ، ومن كذب الله فهو مشرك . انتهى .
السابع : قوله : «لا يلبس» قال الحافظ : قال ابن دقيق العيد ، في الحديث : العدول عما لا ينحصر إلى ما ينحصر طلبا للإيجار؛ لأن السائل سأل عما يلبس فأجيب بما لا يلبس؛ إذ الأصل الإباحة ، ولو عدد له ما يلبس لطال ، بل كان لا يؤمن أن يتمسك بعض السامعين بمفهومه فيظن اختصاصه بالمحرم .
[ ص: 144 ]