الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر نزوله- صلى الله عليه وسلم- بذي طوى ، ودخوله مكة ، وطوافه وسعيه :

                                                                                                                                                                                                                              ثم نهض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أن نزل بذي طوى ، وهي المعروفة اليوم بآبار الزاهر ، فبات بها ليلة الأحد ، لأربع خلون من ذي الحجة ، وصلى بها الصبح ، ثم اغتسل من يومه ، ونهض إلى مكة من أعلاها من الثنية العليا ، التي تشرف على الحجون وكان في العمرة يدخل من أسفلها وفي الحج دخل من أعلاها وخرج من أسفلها ، ثم سار حتى دخل المسجد ضحى .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال : «دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- [ ص: 462 ] ودخلنا معه من باب عبد مناف ، وهو الذي تسميه الناس : باب بني شيبة» - رجاله رجال الصحيح إلا مروان بن أبي مروان ، قال السليماني : فيه نظر .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي : وخرج من باب بني مخزوم [إلى الصفا] فلما نظر إلى البيت ، واستقبله ورفع يديه وكبر ، وقال : «اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، فحينا ربنا بالسلام ، اللهم زد هذا البيت تشريفا ، وتعظيما ، وتكريما ، ومهابة ، وزد من عظمه ، ممن حجه أو اعتمره ، تكريما وتشريفا وتعظيما وبرا» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني ، عن حذيفة بن أسيد ، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا نظر إلى البيت قال : «اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة» .

                                                                                                                                                                                                                              فلما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المسجد عمد إلى البيت ، ولم يركع تحية المسجد ، فإن تحية المسجد الحرام الطواف .

                                                                                                                                                                                                                              وكان طوافه- صلى الله عليه وسلم- في هذه المرة ماشيا فقد روى البيهقي- بإسناد جيد- كما قال ابن كثير عن جابر بن عبد الله قال : «دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى ، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- باب المسجد فأناخ راحلته ، ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر فاستلمه ، وفاضت عيناه بالبكاء ، ثم رمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، حتى فرغ قبل الحجر ، ووضع يديه عليه ، ومسح بهما وجهه» .

                                                                                                                                                                                                                              وأما ما رواه مسلم ، عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت : «طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بعيره يستلم الركن كراهة أن يضرب عنه الناس» ، وما رواه أبو داود ، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال : قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة يشتكي فطاف على راحلته وكلما أتى الركن استلم بمحجن ، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين .

                                                                                                                                                                                                                              وقول أبي الطفيل- رضي الله تعالى عنه- «يطوف حول البيت على بعير يستلم الركن بمحجن» رواه البيهقي .

                                                                                                                                                                                                                              قال : طاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حجته بالبيت على ناقته الجدعاء ، وعبد الله ابن أم مكتوم آخذ بخطامها يرتجز فقالا ، واللفظ لابن كثير ، إن حجة الوداع كان فيها ثلاثة أطواف ، هذا الأول ، والثاني طواف الإفاضة ، وهو طواف الفرض وكان يوم النحر . والثالث : طواف [ ص: 463 ] الوداع فلعل ركوبه- صلى الله عليه وسلم- كان في أحد الأخيرين ، أو في كليهما ، فأما الأول : وهو طواف القدوم فكان ماشيا فيه ، وقد نص على هذا الإمام الشافعي- رضي الله تعالى عنه- والدليل على ذلك ما رواه البيهقي بإسناد جيد ، عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال : «دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى ، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- باب المسجد فأناخ راحلته ، ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر فاستلمه ، وفاضت عيناه بالبكاء ، ثم رمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، حتى فرغ يقبل الحجر ، ووضع يديه عليه ومسح بهما وجهه» .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القيم : وحديث ابن عباس إن كان محفوظا فهي في إحدى عمره ، وإلا فقد صح عنه : الرمل في الثلاثة الأول من طواف القدوم ، إلا أن يقول كما قال ابن حزم في السعي : إنه رمل على بعيره ، فقد رمل لكن ليس في شيء من الأحاديث أنه كان راكبا في طواف القدوم .

                                                                                                                                                                                                                              فلما حاذى- صلى الله عليه وسلم- الحجر الأول استلمه ، ولم يزاحم عليه قلت : وقال لعمر : «يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر تؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فاستلمه ، وإلا فاستقبله وهلل وكبر» رواه الإمام أحمد وغيره ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              قال : ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني ، ولم يرفع يديه ، ولم يقل : نويت بطوافي هذا الأسبوع ، كذا وكذا ولا افتتحه بالتكبير ، كما يكبر للصلاة كما يفعله من لا علم عنده ، بل هو من البدع المنكرات ، ولا حاذى الحجر الأسود بجميع يديه ، ثم انفتل عنه وجعله على شقه ، بل واستقبله ، واستلمه ، ثم أخذ على يمينه وجعل البيت على يساره ولم يدع عند الباب بدعاء ، ولا تحت الميزاب ، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقت الطواف ذكرا معينا ، لا بفعله ولا تعليمه ، بل حفظ عنه بين الركنين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وروى ابن سعد ، عن عبد الله بن السائب- رضي الله تعالى عنه- قال : كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول بين الركنين : اليماني ، والحجر الأسود ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

                                                                                                                                                                                                                              ورمل- صلى الله عليه وسلم- في طوافه هذا الثلاثة الأشواط ، الأول قلت : «من الحجر إلى الحجر» رواه الإمام أحمد ، وأبو يعلى . [ ص: 464 ]

                                                                                                                                                                                                                              وكان يسرع مشيه ، ويقارب بين خطاه واضطبع بردائه فجعله على أحد كتفيه ، وأبدى كتفه الآخر ، ومنكبه ، وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه واستلمه بمحجنه وقبل المحجن ، وهو عصا محنية الرأس .

                                                                                                                                                                                                                              وثبت عنه : أنه استلم الركن اليماني ، ولم يثبت عنه أنه قبله ، ولا قبل يده حين استلامه .

                                                                                                                                                                                                                              وقول ابن عباس كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقبل الركن اليماني ، ويضع خده عليه ، رواه الدارقطني ، من طريق عبد الله بن مسلم بن هرمز .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن القيم : «المراد بالركن اليماني ها هنا الحجر الأسود ، فإنه يسمى الركن اليماني مع الركن الآخر يقال لهما : اليمانيان ، ويقال له مع الركن الذي يلي الحجر من ناحية الباب العراقيان ، ويقال للركنين اللذين يليان الحجر الشاميان ، ويقال للركن اليماني ، والذي يلي الحجر من ظهر الكعبة الغربيان ، ولكن ثبت عنه أنه قبل الحجر الأسود ، وثبت عنه أنه استلمه بيده ، فوضع يده عليه ثم قبلها .

                                                                                                                                                                                                                              وثبت عنه : أنه استلمه بمحجنه ، فهذه ثلاث صفات .

                                                                                                                                                                                                                              وروي عنه «أنه وضع شفته عليه طويلا يبكي» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني بإسناد جيد أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا استلم الركن اليماني قال : بسم الله ، والله أكبر ، وكان كلما أتى الحجر الأسود ، قال : «الله أكبر» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو داود الطيالسي ، عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله قبل الركن ، ثم سجد عليه ، ثم قبله ، ثم سجد عليه ، ثلاث مرات ، ولم يمس من الركنين إلا اليمانيين فقط .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : «واستسقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في طوافه» . رواه الطبراني ، عن العباس ، وفي سنده رجل لم يسم ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              فلما فرغ من طوافه جاء إلى خلف المقام ، فقرأ واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فصلى ركعتين- والمقام بينه وبين البيت- قرأ فيهما بعد الفاتحة : بسورة الإخلاص ، وقراءته الآية المذكورة . قلت : في حديث جابر : «أنه قرأ فيهما قل هو الله أحد ، وقل يا أيها الكافرون ، والله تعالى أعلم . فلما فرغ من صلاته أقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم خرج إلى الصفا من الباب الذي يقابله ، فلما دنا منه قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به» .

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية النسائي : «ابدءوا» على الأمر ثم رقى عليه حتى إذا رأى البيت فاستقبل [ ص: 465 ] البيت فوحد الله- تعالى- وكبره وقال : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دعا بين ذلك ، قال مثل ذلك ثلاث مرات» .

                                                                                                                                                                                                                              وقام ابن مسعود على الصدع ، وهو : الشق الذي في الصفا ، فقيل له ها هنا يا أبا عبد الرحمن ، قال : هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة ، ثم نزل إلى المروة يمشي ، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا جاوز الوادي وصعد مشى كذا في حديث جابر عند الإمام أحمد ومسلم من طريق جعفر بن محمد .

                                                                                                                                                                                                                              قالا : لكن روى الإمام أحمد ، ومسلم عن محمد بن بكر ، والنسائي عن شعيب بن إسحاق ومسلم عن علي بن شهر وعيسى بن يونس كلهم عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت ، وبين الصفا والمروة ليراه الناس . قلت : وبكونه سعى راكبا جزم ابن حزم .

                                                                                                                                                                                                                              وظاهر الأحاديث عن جابر وغيره ، يقتضي أنه مشى خصوصا ، قوله فلما انصبت قدماه في الوادي رمل حتى إذا صعد مشى . وجزم ابن حزم : بأن الراكب إذا انصب به بعيره فقد انصب كله وانصبت قدماه أيضا مع سائر جسده .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن كثير وهذا بعيد جدا .

                                                                                                                                                                                                                              قالا : وفي الجمع بينهما وجه أحسن من هذا وهو : أنه سعى ماشيا أولا ، ثم أتم سعيه راكبا ، وقد جاء ذلك مصرحا به ، ففي صحيح مسلم ، عن أبي الطفيل ، قال قلت : لابن عباس : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا ، أسنة هو ؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة . قال : «صدقوا وكذبوا» ، قال : قلت : ما قولك صدقوا وكذبوا قال : إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كثر عليه الناس يقولون : هذا محمد ، حتى خرج عليه العواتق من البيوت قال : وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يضرب الناس بين يديه ، قال : فلما كثر عليه الناس ركب ، والمشي أفضل .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : «وفي حديث يعلى بن أمية عند الإمام أحمد أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مضطبعا بين الصفا والمروة ببرد نجراني» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى النسائي والطبراني برجال الصحيح ، عن أم ولد شيبة بن عثمان «أنها أبصرت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول : «لا يقطع الأبطح إلا شدا» . [ ص: 466 ]

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي ، عن قدامة بن عمار ، قال : «رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يسعى بين الصفا والمروة على بعير ، لا ضرب ، ولا طرد ، ولا إليك إليك» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عبد الله ابن الإمام أحمد ، والبزار- برجال ثقات- عن علي- رضي الله تعالى عنه- «أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كاشفا عن ثوبه حتى بلغ ركبتيه» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد ، والطبراني ، عن حبيبة بنت أبي تجراة- رضي الله تعالى عنها- قالت : «رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطوف بين الصفا والمروة ، والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، يدور به إزاره وهو يقول : «اسعوا فإن الله- عز وجل- كتب عليكم السعي» وفي الكبير قال : «ولقد رأيته من شدة السعي يدور الإزار حول بطنه وفخذيه حتى رأيت بياض فخذيه» .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وفي حديث ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا سعى في بطن المسيل ، قال : «اللهم اغفر وارحم ، وأنت الأعز الأكرم» رواه الطبراني .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث ابن علقمة ، عن عمه «أنه- صلى الله عليه وسلم- كان إذا جاء مكانا من دار يعلى- نسبه عبيد الله- استقبل البيت ودعا» . رواه الإمام أحمد وأبو داود إلا أنه قال : عن أمه والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم وطاف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- راكبا على بعير يخب ثلاثا ويمشي أربعا .

                                                                                                                                                                                                                              قالا : وكونه خب ثلاثة أشواط بين الصفا والمروة ، ومشى أربعا لم يتابع على هذا القول ، ولم يتفوه به أحد قبله ، وإنما هذا في الطواف بالبيت .

                                                                                                                                                                                                                              وكان- صلى الله عليه وسلم- إذا وصل إلى المروة رقي عليها واستقبل البيت وكبر الله ووحده وفعل كما فعل على الصفا ، فلما أكمل سعيه عند المروة أمر كل من لا هدي معه أن يحل حتما ولا بد قارنا كان أو مفردا ، وأمرهم أن يحلوا الحل كله ، من وطء النساء ، والطيب ولبس المخيط ، وأن يبقوا كذلك إلى يوم التروية ، ولم يحل هو من أجل هديه ، فحل الناس كلهم إلا النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدي ، ومنهم أبو بكر وعمر ، وطلحة والزبير ، قال : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة» ، وهناك سأله سراقة بن مالك بن [ ص: 467 ] جشم وهو في أسفل الوادي ، لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة والإحلال ، يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فشبك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصابعه واحدة في الأخرى فقال : «لا» ، ثلاث مرات ، ثم قال : «دخلت العمرة في الحج مرتين أو ثلاثا إلى الأبد» بل الأبد فحل الناس كلهم إلا النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدي .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية