الأول : قال أهل المغازي : وقيل : لليلتين بقيتا من رمضان ، وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج من أواخر رمضان ، وسار سادس شوال ، وكان وصوله إليها في عاشره . خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين لست خلت من شوال ،
قال في زاد المعاد : كان الله - تعالى - قد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الوعد أنه إذا فتح مكة دخل الناس في دينه أفواجا ، ودانت له العرب بأسرها ، فلما تم له الفتح المبين ، اقتضت حكمة الله - تعالى - أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام وأن يتجمعوا ويتأهبوا لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، ليظهر أمر الله - سبحانه وتعالى - وتمام إعزازه ، لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ونصره لدينه ، ولتكون غنائمهم شكرا لأهل الفتح ، ليظهر الله ورسوله وعباده وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها ، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب . ويتبين ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين واقتضت حكمته . [ ص: 347 ]
- تعالى - أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكبوة مع كثرة عددهم وعددهم وقوة شوكتهم ليطأ من رؤوس رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعا رأسه منحنيا على فرسه ، حتى إن ذقنه تكاد أن تمس سرجه تواضعا لربه تبارك وتعالى ، وخضوعا لعظمته ، واستكانة لعزته أن أحل له حرمة بلده ، ولم يحله لأحد قبله ، ولا لأحد بعده ، وليبين عز وجل لمن قال : لن نغلب اليوم من قلة أن النصر إنما هو من عنده ، وأنه من ينصره فلا غالب له ، ومن يخذله فلا ناصر له غيره ، وأنه - تعالى - هو الذي تولى نصر رسوله ودينه لا كثرتكم التي أعجبتكم ، فإنها لم تغن عنكم شيئا فوليتم مدبرين فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الجبر مع مزيد ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها [التوبة 26] وقد اقتضت حكمته - تبارك وتعالى - أن خلع النصر وجوائزه إنما تفضى على أهل الانكسار ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [القصص 5 ، 6] .
الثاني : ولهذا يقرن هاتين الغزاتين بالذكر فيقال «بدر وحنين” وإن كان بينهما سبع سنين والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين بهاتين الغزاتين ، والنبي - صلى الله عليه وسلم رمى وجوه المشركين بالحصا فيهما ، وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله - صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فالأولى خوفتهم وكسرت من حدتهم . والثانية : استفرغت قواهم ، واستنفدت سهامهم ، وأذلت جمعهم ، حتى لم يجدوا بدا من الدخول في دين الله - تعالى - وجبر الله تبارك وتعالى أهل مكة بهذه الغزوة ، وفرحهم بما نالوا من النصر والمغنم ، فكانت كالدواء لما نالهم من كسرهم ، وإن كان عين جبرهم وقهرهم تمام نعمته عليهم بما صرفه عنهم من شر من كان يجاورهم من أشراف العرب من وافتتح الله - سبحانه وتعالى - غزو العرب بغزوة بدر ، وختم غزوهم بغزوة حنين ، هوازن وثقيف ، بما أوقع بهم من الكسرة ، وبما قيض لهم من دخولهم في الإسلام ، ولولا ذلك ما كان أهل مكة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدتها . فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق توكلا ، فقد دخل ومن تمام التوكل استعمال الأسباب التي نصبها الله سبحانه وتعالى لمسبباتها قدرا وشرعا مكة والبيضة على رأسه ، ولبس يوم حنين درعين ، وقد أنزل الله - سبحانه وتعالى والله يعصمك من الناس [المائدة 67] وكثير ممن لا تحقيق عنده يستشكل هذا ويتكايس في الجواب ، تارة بأن هذا فعله - صلى الله عليه وسلم - تعليما لأمته ، وتارة بأن هذا كان قبل نزول الآية!! لو تأمل أن ضمان الله - سبحانه وتعالى - له العصمة لا ينافي تعاطيه لأسبابها فإن هذا الضمان له من ربه - تبارك وتعالى - لا ينافي احتراسه من الناس ولا ينافيه ، كما أن إخبار الله - عز وجل - له بأنه يظهره على الدين كله ويعليه ، لا يناقض أمره [ ص: 348 ]
بالقتال ، وإعداد العدة والقوة ، ورباط الخيل ، والأخذ بالجد والحذر ، والاحتراس من عدوه ، ومحاربته بأنواع الحرب ، والتورية ، فكان إذا أراد غزوة ورى بغيرها ، وذلك لأنه إخبار من الله - تعالى - عن عاقبة حاله وماله فما يتعاطاه من الأسباب التي جعلها الله - تعالى - بحكمته موجبة لما وعده به من النصر والظفر ، وإظهار دينه وغلبته عدوه انتهى .
الثالث : اختلف العلماء في فقال الشافعي وغيره يضمن ، وقال أبو حنيفة وغيره : لا يضمن ، وفي بعض طرق الحديث العارية هل تضمن إذا تلفت ، وقد اختلفوا في هذا القيد وهو مضمونة ، أنه صفة موضحة أو مقيدة ، فمن قال بالأول قال : تضمن ، ومن قال مقيدة قال : لا إلا بشرط ، قاله في النور . «بل عارية مضمونة ،
الرابع : تضمن قول السائل للبراء في الرواية الثانية أوليتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الثالثة أفررتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول البراء رضي الله عنه - فأشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يول ، وقوله في الرواية الثانية «لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقر إثبات الفرار ، لكن لا على طريق التعميم ، وأراد أن إطلاق السائل يشمل الجميع حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بظاهر الرواية الثانية ، ويمكن الجمع بين الثانية والثالثة بحمل المعية على ما قبل الهزيمة فبادر إلى استثنائه ، ثم أوضح ذلك وختم حديثه بأنه لم يكن أحد يومئذ أشد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل أن فهم أن السائل اشتبه عليه حديث البراء ومررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهزما ، فلذلك حلف سلمة بن الأكوع ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يول ، ودل ذلك على أن منهزما حال من سلمة ، ولهذا وقع في طريق أخرى «ومررت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهزما وهو على بغلته” فقال : لقد رأى البراء ابن الأكوع فزعا ، ويحتمل أن يكون السائل أخذ العموم من قوله تعالى : ثم وليتم مدبرين [التوبة 25] فبين البراء أنه من العموم الذي أريد به الخصوص .
الخامس : يجمع بين قول أنس - رضي الله عنه - : بقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده وبين الأخبار الدالة أنه بقي معه جماعة بأن المراد بقي وحده متقدما مقبلا على العدو ، والذين ثبتوا كانوا وراءه ، أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال ، وأبو سفيان بن الحارث وغيره كانوا يخدمونه في إمساك البغلة ، ونحو ذلك .
السادس : لا تخالف بين قول لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة رجل ، وبين قول ابن عمر ، ثبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانون من المهاجرين والأنصار فإن ابن مسعود ، نفى أن يكونوا مائة ، ابن عمر أثبت أنهم كانوا ثمانين . وابن مسعود
وذكر النووي أن الذين ثبتوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر رجلا ، ووقع في شعب [ ص: 349 ]
- رضي الله عنه - أن الذين ثبتوا معه كانوا عشرة فقط ، وذلك لقوله : العباس بن عبد المطلب
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه
لما مسه في الله لا يتوجع
السابع : البغلة البيضاء : وفي عن مسلم الشهباء التي كان عليها يومئذ أهداها له سلمة بن الأكوع فروة - بفتح الفاء ، وسكون الراء ، وفتح الواو ، وبالهاء ابن نفاثة بنون مضمومة ففاء مخففة فألف فثاء مثلثة ، ووقع في بعض الروايات عند مسلم فروة بن نعامة بالعين والميم ، والصحيح المعروف الأول ، ووقع عند ابن سعد وتبعه جماعة ممن ألف في المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان على بغلته دلدل ، وفيه نظر ، لأن دلدل أهداها له المقوقس . قال القطب : ويحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب يومئذ كلا من البغلتين ، وإلا فما في الصحيح أصح .
الثامن : قال العلماء : لأن ركوب الفحولة مظنة الاستعداد للفرار والتولي ، وإذا كان رأس الجيش قد وطن نفسه على عدم الفرار والأخذ بأسباب ذلك كان ذلك أدعى لاتباعه . ركوبه - صلى الله عليه وسلم - البغلة يومئذ دلالة على النهاية في الشجاعة والثبات ،
التاسع : وقع في الصحيح حديث البراء وأبو سفيان ابن عمه يقود به ، وفي حديث أنه كان آخذا بلجام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس وأبو سفيان آخذ بركابه ، ويجمع بأن أبا سفيان كان آخذا أولا بزمام البغلة ، فلما ركضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جهة الكفار خشي العباس وأخذ بلجام البغلة يكفها ، وأخذ أبو سفيان بالركاب وترك اللجام للعباس إجلالا له لأنه كان عمه .
العاشر : وقع في حديث ابن عبد الرحمن الفهري - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - اقتحم عن فرسه «فأخذ كفا من تراب” انتهى قلت : وهي رواية شاذة ، والصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان حينئذ على بغلة .
الحادي عشر : في
قوله - صلى الله عليه وسلم - «أنا النبي لا كذب”
إشارة إلى صفة النبوة يستحيل معها الكذب ، وكأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : لأنا النبي ، والنبي لا يكذب ، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم ، وأنا متيقن أن الذي وعدني به الله من النصر حق فلا يجوز علي الفرار ، وقيل معنى قول «لا كذب” أي أنا النبي حقا لا كذب في ذلك .
الثاني عشر :
قوله - صلى الله عليه وسلم - أنا النبي لا كذب”
بسكون الموحدة من كذب وهذا وإن وقع موزونا لا يسمى شعرا لأنه غير مقصود كما سيأتي بسط ذلك في الخصائص . [ ص: 350 ]
الثالث عشر : بخلاف عبد الله فإنه مات شابا ولهذا كان كثير من العرب يدعونه ابن عبد المطلب كما في حديث حماد في الصحيح وقيل لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب . رجل يدعو إلى الله ويهدي الله - تعالى - الخلق على يديه ، ويكون خاتم الأنبياء ، فانتسب ليتذكر ذلك من كان يعرفه ، وقد اشتهر ذلك بينهم ، وذكره انتسب - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد المطلب دون أبيه عبد الله لشهرة عبد المطلب بين الناس لما رزق من نباهة الذكر وطول العمر ، سيف بن ذي يزن قديما لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة وأراد - صلى الله عليه وسلم - تنبيه أصحابه بأنه لا بد من ظهوره ، وإن العاقبة له لتقوى قلوبهم إذا عرفوا أنه - صلى الله عليه وسلم - ثابت غير منهزم .
الرابع عشر : في إشهاره - صلى الله عليه وسلم - نفسه الكريمة في الحرب غاية الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو .
الخامس عشر : في تقدمة - صلى الله عليه وسلم - قبل الكفار نهاية الشجاعة ، وفي نزوله - صلى الله عليه وسلم - عن البغلة حين غشوه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر ، وقيل : فعل ذلك مواساة لمن كان نازلا على الأرض من المسلمين .
السادس عشر : في حديث وغيره سلمة بن الأكوع إلخ . «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب”
وفي حديث أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال له حين انهزم أصحابه «ناولني كفا من تراب” فناوله ، ابن مسعود
وفي حديث عن ابن عباس أن البراء ناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب فرمى به في وجوه الكفار ، والجمع بين ذلك إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولا قال لصاحبه «ناولني” فناوله ، فرماهم ، ثم نزل عن البغلة فأخذ بيده فرماهم أيضا ، فيحتمل أن الحصى في إحدى المرتين وفي الأخرى التراب ، وأن كلا ممن ذكر ناوله . عليا
السابع عشر : في رميه - صلى الله عليه وسلم - الكفار ، وقوله : إلخ ، معجزتان ظاهرتان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحداهما فعلية ، والأخرى خبرية ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بهزيمتهم ورماهم بالحصى فولوا مدبرين . وفي رواية استقبل وجوههم فقال «انهزموا ورب الكعبة” . وهنا أيضا معجزتان فعلية وخبرية . «شاهت الوجوه”
الثامن عشر : في قول فو الله لكأن في عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها . إلخ دليل أن فرارهم لم يكن بعيدا . العباس :
التاسع عشر : في عقر - رضي الله عنه - بعير حامل راية الكفار دليل على جواز علي إذا كان ذلك عونا على قتله . عقر فرس العدو ومركوبه
العشرون :
الإمام بقسم الغنائم إسلام الكفار ودخولهم في الطاعة فيه ورده عليهم غنائمهم ومتاعهم . في انتظار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقسم غنائم هوازن إسلامهم جواز انتظار [ ص: 351 ]
الحادي والعشرون : اتفقوا على أنه لا يقبل قول من ادعى السلب إلا ببينة تشهد له .
ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا شاهد واحد يكتفي به .
الثاني والعشرون : قال في العيون أخذا من الروض فرار من كان معه - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين قد أعقبه رجوعهم إليه بسرعة وقتالهم معه حتى كان الفتح ، وفي ذلك نزل ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا إلى قوله : غفور رحيم [التوبة 25 : 27] كما قال فيمن تولى يوم أحد (ولقد عفا الله عنهم ) أن اختلف الحال في الوقعتين . وقال الحافظ :
العذر لمن انهزم من غير المؤلفة أن العدو كانوا ضعفهم في العدد وأكثر من ذلك ، وكذا جزم في النور بأن هوازن كانوا أضعاف الذين كانوا معه - صلى الله عليه وسلم .