الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأصل الثامن .

أن فضل الصحابة رضي الله عنهم على ترتيبهم في الخلافة إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله عز وجل ، وذلك لا يطلع عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد ورد في الثناء على جميعهم آيات وأخبار كثيرة وإنما يدرك دقائق الفضل والترتيب فيه المشاهدون للوحي والتنزيل بقرائن الأحوال ودقائق التفصيل فلولا فهمهم ذلك لما رتبوا الأمر كذلك إذ كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يصرفهم عن الحق صارف .

التالي السابق


(الأصل الثامن) أن فضل الصحابة رضي الله عنهم على حسب (ترتيبهم في الخلافة) ، فأفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي; إذ المسلمون كانوا لا يقدمون [ ص: 228 ] أحدا في الإمامة تشهيا منهم، وإنما يقدمونه لاعتقادهم بأنه أصلح وأفضل من غيره (إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله عز وجل، وذلك لا يطلع عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بإطلاع الله سبحانه إياه (وقد ورد) عنه (فى الثناء على جميعهم أخبار) صحيحة يحتج بها (وإنما يفهم ذلك) أي: حقيقة تفضيله عليه السلام لبعض على بعض (المشاهدون) زمان (الوحي والتنزيل) ، وأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأحوالهم معه (بقرائن) أي: بظهور قرائن (الأحوال) الدالة على التفضيل (و) ظهور (دقائق التفصيل) لهم دون من لم يشهد ذلك، ولكن قد ثبت ذلك التفضيل لنا صريحا من بعض الأخبار، ودلالة من بعضها، كما في الصحيحين من حديث عمرو بن العاص حين سأله عليه السلام فقال: من أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة". فقلت: من الرجال؟ قال: "أبوها"، قلت: ثم من؟ قال: "عمر بن الخطاب". فعد رجالا. وتقديمه في الصلاة، كما ذكر نافع أن الاتفاق على أن السنة أن يقدم على القوم أفضلهم علما وقراءة وخلقا وورعا، فثبت بذلك أنه أفضل الصحابة .

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر: من نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ نخير أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان. زاد الطبراني: فيبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره.

وفيه أيضا من حديث محمد بن الحنفية: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر. فقلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا واحد من المسلمين. فهذا علي نفسه مصرح بأن أبا بكر أفضل الناس، وأفاد بعض الأول والثاني تفضيل أبي بكر وحده على الكل، وفي الثالث والرابع ترتيب الثلاثة في الفضل، ولما أجمعوا على تقديم علي رضي الله عنه بعدهم دل على أنه كان أفضل من بحضرته، فثبت أنه كان أفضل الخلق بعد الثلاثة، وإليه أشار المصنف بقوله: (فلولا فهمهم) أي: الصحابة (ذلك لما رتبوا الأمر كذلك) بالتفصيل السابق; (إذ كانوا) رضي الله عنهم ممن (لا تأخذهم في) دين (الله لومة لائم، ولا يصرفهم عن الحق صارف) أي: مانع، لما عرف من صرامتهم في الدين وعدالتهم وثناء الله عليهم وتزكيتهم، كما سبقت الإشارة إليه آنفا .



(تنبيه)

هذا الترتيب بين عثمان وعلي هو ما عليه أكثر أهل السنة، خلافا لما روي عن بعض أهل الكوفة والبصرة من عكس القضية، وروي عن أبي حنيفة وسفيان الثوري، والصحيح ما عليه جمهور أهل السنة، وهو الظاهر من قول أبي حنيفة على ما رتبه في الفقه الأكبر وفق مراتب الخلاف، وكذا قال القونوي في شرح العقيدة: إن ظاهر مذهب أبي حنيفة تقديم عثمان على علي، وعلى هذا عامة أهل السنة. قال: وكان سفيان الثوري يقول بتقديم علي على عثمان، ثم رجع، على ما نقل عنه أبو سليمان الخطابي، قلت: وروي عن مالك التوقف، حكى المازري عن المدونة أن مالكا سئل: أي الناس أفضل بعد نبيهم؟ فقال: أبو بكر. ثم قال: أوفي ذلك شك؟! قيل له: فعلي فعثمان؟ قال: ما أدركت أحدا ممن اقتدي به يفضل أحدهما على صاحبه .

وحكى عياض قولا أن مالكا رجع عن الوقف إلى تفضيل عثمان، قال القرطبي: وهو الأصح إن شاء الله تعالى. قال ابن أبي شريف: وقد مال إلى التوقف أيضا إمام الحرمين، فقال: الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل، ثم عمر، وتتعارض الظنون في عثمان وعلي. اهـ .

قال: هو ميل منه إلى أن الحكم في التفضيل ظني، وإليه ذهب القاضي أبو بكر، لكنه خلاف ما مال إليه الأشعري، وخلاف ما يقتضيه قول مالك السابق: أوفي ذلك شك؟! اهـ .

وقال أبو سليمان: إن للمتأخرين في هذا مذاهب، منهم من قال بتقديم أبي بكر من جهة الصحبة، وتقديم علي من جهة القرابة. وقال قوم: لا نقدم بعضهم على بعض. وكان بعض مشايخنا يقول: أبو بكر خير، وعلي أفضل. فباب الخيرية -وهي الطاعة للحق والمنفعة للخلق- متعد، وباب الفضيلة لازم. اهـ .

وفيه بحث لا يخفى، وفي شرح العقائد: على هذا الترتيب وجدنا السلف، والظاهر أنه لو لم يكن دليل هنالك لما حكموا بذلك. وكأن السلف كانوا متوقفين في تفضيل عثمان على علي، حيث جعلوا من علامات السنة والجماعة تفضيل الشيخين، ومحبة الحسنين .

والإنصاف أنه إن أريد بالأفضلية كثرة الثواب [ ص: 229 ] فللتوقف جهة، وإن أريد كثرة ما يعده ذوو العقول من الفضائل فلا. انتهى .

قال ملا علي: ومراده بالأفضلية أفضلية عثمان على علي بقرينة ما قبله من ذكر التوقف فيما بينهما، لا لأفضلية بين الأربعة كما فهمه أكثر المحشين، حيث قال بعضهم -بعد قوله: فلا: لأن فضائل كل واحد منهم كانت معلومة لأهل زمانه، وقد نقل إلينا سيرتهم وكمالاتهم، فلم يبق للتوقف بعد ذلك وجه سوى المكابرة وتكذيب العقل فيما يحكم ببداهته. وقال: المنقول عن بعض المتأخرين أن لا جرم بالأفضلية بهذا المعنى أيضا; إذ ما من فضيلة لأحد إلا ولغيره مشاركة فيها، وبتقدير اختصاصها حقيقة فقد يوجد لغيره أيضا اختصاصه بغيرها، على أنه يمكن أن تكون فضيلة واحدة أرجح من فضائل كثيرة، إما لشرفها في نفسها، أو لزيادة كميتها .

وقال محش آخر: أي: فلا جهة للتوقف، بل يجب أن يجزم بأفضلية علي; إذ قدموا من حقه ما يدل على عموم مناقبه، ووفور فضائله، واتصافه بالكمالات، واختصاصه بالكرامات. هذا هو المفهوم من سوق كلامه، ولذا قيل: فيه رائحة من الرفض، لكنه فرية بلا مرية; إذ لو كان هذا رفضا لم يوجد من أهل الرواية والدراية سني أصلا، فإياك والتعصب في الدين. اهـ .

ولا يخفى أن تقديم علي على الشيخين مخالف لمذهب أهل السنة على ما عليه جميع السلف، وإنما ذهب بعض الخلف إلى تفضيل علي على عثمان، ومنهم أبو الطفيل من الصحابة، وفي كتاب القوت: كان أحمد بن حنبل قد أكثر عن عبدالله بن موسى الكاظم، ثم بلغه عنه أدنى بدعة، قيل: إنه كان يقدم عليا على عثمان; فانصرف أحمد ومزق جميع ما حمل عنه، ولم يحدث منه شيئا .



(فصل)

قال الشهاب السهروردي في رسالته المسماة "أعلام الهدى وعقيدة أرباب التقى": وأما أصحابه عليه السلام فأبو بكر رضي الله عنه، وفضائله لا تنحصر، وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. ثم قال: ومما ظفر به الشيطان من هذه الأمة، وخامر العقائد منه ودنس، وصار في الضمائر خبث، ما ظهر من المشاجرة، وأورث ذلك أحقادا وضغائن في البواطن، ثم استحكمت تلك الصفات وتوارثها الناس، فتكثفت وتجسدت وجذبت إلى أهواء استحكمت أصولها، وتشعبت فروعها، فأيها المبرأ من الهوى والعصبية اعلم أن الصحابة -مع نزاهة بواطنهم، وطهارة قلوبهم- كانوا بشرا، وكانت لهم نفوس، وللنفوس صفات تظهر، فقد كانت نفوسهم تظهر بصفة، وقلوبهم منكرة لذلك; فيرجعون إلى حكم قلوبهم، وينكرون ما كان من نفوسهم، فانتقل اليسير من آثار نفوسهم إلى أرباب نفوس عدموا القلوب، فما أدركوا قضايا قلوبهم، وصارت صفات نفوسهم مدركة عندهم للجنسية النفسية، فبنوا تصرف النفوس على الظاهر المفهوم عندهم، ووقعوا في بدع وشبه أوردتهم كل مورد رديء، وجرعتهم كل شرب وبيء، واستعجم عليهم صفاء قلوبهم، ورجوع كل أحد إلى الإنصاف، وإذعانه لما يجب من الاعتراف، وكان عندهم اليسير من صفات نفوسهم; لأن نفوسهم كانت محفوظة بأنوار القلوب، فلما توارث ذلك أرباب النفوس المتسلطة، الأمارة بالسوء، القاهرة للقلوب المحروسة أنوارها، أحدث عندهم العداوة والبغضاء، فإن قبلت النصح فأمسك عن التصرف في أمرهم، واجعل محبتك للكل على السواء، وأمسك عن التفصيل، وإن خامر باطنك فضل أحدهم على الآخر فاجعل ذلك من جملة أسرارك، فما يلزمك إظهاره، ولا يلزمك أن تحب أحدهم أكثر من الآخر، بل يلزمك محبة الجميع، والاعتراف بفضل الجميع، ويكفيك في العقيدة السليمة أن تعتقد صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. اهـ .

قال ملا علي: ولا يخفى أن هذا من الشيخ إرخاء العنان مع الخصم في ميدان البيان; فإنه بين اعتقاده أولا، ثم تنزل إلى ما يجب في الجملة آخرا، ولأن اعتقاد صحة خلافة الأربعة مما يوجب ترتيب فضلهم في مقام العلم والسعة، ثم الظاهر أن المحبة تتبع الفضيلة قلة وكثرة وتسوية; فيتعين إجمالا في مقام الإجمال، وتفصيلا في مقام التفصيل. قال: ثم رأيت الكردي ذكر في المناقب ما نصه: من اعترف بالخلافة والفضيلة للخلفاء، وقال: أحب عليا أكثر; لا يؤاخذ به إن شاء الله تعالى; لقوله عليه السلام: "هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك".

[ ص: 230 ] وقال شارح الطحاوية: ترتيب الخلفاء الراشدين كترتيبهم في الخلافة، إلا أن لأبي بكر وعمر مزية، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، ولم يأمرنا بالاقتداء بالأفعال إلا بأبي بكر وعمر، فقال: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر". وفرق بين اتباع سنتهم والاقتداء بهم; فحال أبي بكر وعمر فوق حال عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين .




الخدمات العلمية