أحدهما : وهو الأظهر والأصح والأسلم أن تصدق بأنها موجودة وهي تلدغ الميت ولكنك لا تشاهد ذلك فإن هذه العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية ، وكل ما يتعلق بالآخرة فهو من عالم الملكوت أما ترى الصحابة رضي الله عنهم كيف كانوا يؤمنون بنزول جبريل وما كانوا يشاهدونه ويؤمنون بأنه عليه السلام يشاهده فإن كنت لا تؤمن بهذا فتصحيح أصل الإيمان بالملائكة والوحي أهم عليك وإن كنت آمنت به وجوزت أن يشاهد النبي ما لا تشاهده الأمة فكيف لا تجوز هذا في الميت ؟ وكما أن الملك لا يشبه الآدميين والحيوانات بل هي جنس آخر وتدرك بحاسة أخرى . فالحيات والعقارب التي تلدغ في القبر ليست من جنس حيات عالمنا
المقام الثاني : أن تتذكر أمر النائم وأنه قد يرى في نومه حية تلدغه وهو يتألم بذلك حتى تراه يصيح في نومه ويعرق جبينه وقد ينزعج من مكانه كل ذلك يدركه من نفسه ويتأذى به كما يتأذى اليقظان وهو يشاهده وأنت ترى ظاهره ساكنا ولا ترى حواليه حية والحية موجودة في حقه والعذاب حاصل ولكنه في حقك غير مشاهد وإذا كان العذاب في ألم اللدغ فلا فرق بين حية تتخيل أو تشاهد .
المقام الثالث : أنك تعلم أن الحية بنفسها لا تؤلم بل الذي يلقاك منها وهو السم ، ثم السم ليس هو الألم بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم ، فلو حصل مثل ذلك الأثر من غير سم لكان العذاب قد توفر ، وكان لا يمكن تعريف ذلك النوع من العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضي إليه في العادة ، فإنه لو خلق في الإنسان لذة الوقاع مثلا من غير مباشرة صورة الوقاع لم يمكن تعريفها إلا بالإضافة إليه لتكون الإضافة للتعريف بالسبب ، وتكون ثمرة السبب حاصلة وإن لم تحصل صورة السبب السبب ، يراد لثمرته لا لذاته .
وهذه الصفات المهلكات تنقلب مؤذيات ومؤلمات في النفس عند الموت فتكون آلامها كآلام لدغ الحيات من غير وجود حيات وانقلاب الصفة مؤذية يضاهي انقلاب العشق مؤذيا عند موت المعشوق فإن كان لذيذا فطرأت حالة صار اللذيذ بنفسه مؤلما حتى يرد بالقلب من أنواع العذاب ما يتمنى معه أن لم يكن قد تنعم بالعشق والوصال بل هذا بعينه هو أحد أنواع عذاب الميت فإنه قد سلط العشق في الدنيا على نفسه فصار يعشق ماله وعقاره وجاهه وولده وأقاربه ومعارفه ولو أخذ جميع ذلك في حياته من لا يرجو استرجاعه منه فماذا ترى يكون حاله أليس يعظم شقاؤه ويشتد عذابه ويتمنى ويقول : ليته لم يكن لي مال قط ولا جاه قط فكنت لا أتأذى بفراقه فالموت عبارة عن مفارقة المحبوبات الدنيوية كلها دفعة واحدة .
ما حال من كان له واحد غيب عنه ذلك الواحد
فما حال من لا يفرح إلا بالدنيا فتؤخذ منه الدنيا وتسلم إلى أعدائه ، ثم ينضاف إلى هذا العذاب تحسره على ما فاته من نعيم الآخرة والحجاب عن الله عز وجل فإن فيتوالى عليه ألم فراق جميع محبوباته وحسرته على ما فاته من نعيم الآخرة أبد الآباد وذل الرد والحجاب عن الله تعالى ، وذلك هو العذاب الذي يعذب به إذ لا يتبع نار الفراق إلا نار جهنم كما قال تعالى : حب غير الله يحجبه عن لقاء الله والتنعم به كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم وأما من لم يأنس بالدنيا ولم يحب إلا الله وكان مشتاقا إلى لقاء الله فقد تخلص من سجن الدنيا ومقاساة الشهوات فيها وقدم على محبوبه وانقطعت عنه العوائق والصوارف وتوفر عليه النعيم مع الأمن عن الزوال أبد الآباد ولمثل ذلك فليعمل العاملون .والمقصود أن الرجل قد يحب فرسه بحيث لو خير بين أن يؤخذ منه وبين أن تلدغه عقرب آثر الصبر على لدغ العقرب فإذا ألم فراق الفرس عنده أعظم من لدغ العقرب وحبه للفرس هو الذي يلدغه إذا أخذ منه فرسه فليستعد لهذه اللدغات فإن الموت يأخذ منه فرسه ومركبه وداره وعقاره وأهله وولده وأحبائه ومعارفه ويأخذ منه جاهه وقبوله بل يأخذ منه سمعه وبصره وأعضاءه وييأس من رجوع جميع ذلك إليه ، فإذا لم يحب سواه وقد أخذ جميع ذلك منه فذلك أعظم عليه من العقارب والحيات وكما لو أخذ ذلك منه وهو حي فيعظم عقابه فكذلك إذا مات ; لأنا قد بينا أن المعنى الذي هو المدرك للآلام واللذات لم يمت بل عذابه بعد الموت أشد ; لأنه في الحياة يتسلى بأسباب يشغل بها حواسه من مجالسة ومحادثة ويتسلى برجاء العود إليه ويتسلى ، برجاء العوض منه ، ولا سلوة بعد الموت إذ قد انسد عليه طرق التسلي ، وحصل اليأس فإذا كل قميص له ومنديل قد أحبه بحيث كان يشق عليه لو أخذ منه فإنه يبقى متأسفا عليه ومعذبا به ، فإن كان مخفا في الدنيا سلم وهو المعني بقولهم : نجا المخفون وإن كان مثقلا عظم عذابه وكما أن حال من يسرق منه دينار أخف من حال من يسرق منه عشرة دنانير فكذلك حال صاحب الدرهم أخف من حال صاحب الدرهمين وهو المعني بقوله صلى الله عليه وسلم : صاحب الدرهم أخف حسابا من صاحب الدرهمين فإن شئت فاستكثر وإن شئت فاستقلل ، فإن استكثرت فلست بمستكثر إلا من الحسرة ، وإن استقللت فلست تخفف إلا عن ظهرك . وما من شيء من الدنيا يتخلف عنك عند الموت إلا وهو حسرة عليك بعد الموت