الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأصل السابع .

أنه تعالى يفعل بعباده ما يشاء فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده لما ، ذكرناه من أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بل لا يعقل في حقه الوجوب فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وليت شعري بما يجيب المعتزلي في قوله : إن الأصلح واجب عليه في مسألة نعرضها عليه ، وهو أن يفرض مناظرة في الآخرة بين صبي وبين بالغ ماتا مسلمين فإن الله سبحانه يزيد في درجات البالغ ويفضله على الصبي لأنه تعب بالإيمان والطاعات بعد البلوغ ويجب عليه ذلك عند المعتزلي فلو قال الصبي يا رب لم رفعت منزلته علي فيقول لأنه بلغ واجتهد في الطاعات ويقول الصبي أنت أمتني في الصبا فكان يجب عليك أن تديم حياتي حتى أبلغ فأجتهد فقد عدلت عن العدل في التفضل عليه بطول العمر له دوني ، فلم فضلته فيقول الله تعالى لأني علمت أنك لو بلغت لأشركت أو عصيت فكان الأصلح لك الموت في الصبا . هذا عذر المعتزلي عن الله عز وجل ، وعند هذا ينادي الكفار من دركات لظى ويقولون يا رب ، أما علمت أننا إذا بلغنا أشركنا فهلا أمتنا في الصبا ، فإنا رضينا بما دون منزلة الصبي المسلم ؟ فبماذا يجاب عن ذلك وهل يجب عند هذا إلا القطع بأن الأمور الإلهية تتعالى بحكم الجلال عن أن توزن بميزان أهل الاعتزال .

التالي السابق


(الأصل السابع)

(أنه تعالى يفعل بعباده ما يشاء) فلو أدخل جميعهم الجنة من غير طاعة سابقة منهم، كان له ذلك، ولو أورد الكل منهم النار من غير زلة منهم، كان له ذلك; لأنه تصرف مالك الأعيان في ملكه، وليس عليه استحقاق، إن أثاب فبفضله يثيب، وإن عذب فلحق ملكه يعذب (فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده، كما ذكرناه) في الأصل الرابع، وتقدم الكلام عليه هنالك (من أنه لا يجب عليه سبحانه شيء) ، لا نقلا ولا عقلا ولا عادة (بل لا يعقل في حقه الوجوب) مطلقا; (فإنه) تعالى ( لا يسأل عما يفعل ) بحكم ربوبيته وملكه لكل شيء، الملك الحقيقي، ( وهم يسألون ) بحكم العبودية والمملوكية; لاقتضائها أن العبد المملوك لا استقلال له بتصرف، ولا يمكنه أن يلزم مولاه ويوجب عليه شيئا .

وقال جمهور المعتزلة: ما هو الأصلح للعبد يجب على الله تعالى أن يفعل بالعبد، ويعطيه، ولو أخر ولم يعطه، مع أنه لم يتضرر به لو أعطى، والعبد ينتفع به، لكان بخيلا .

وقال بشر بن المعتمر - رئيس معتزلة بغداد- ومن تابعه: لا يجب على الله تعالى رعاية الأصلح في حق العبد، ولكن يجب عليه أن يفعل ما هو المصلحة، ولا يجوز أن يعمل ما هو المفسد، وعندهم ليس بمقدوره تعالى لطف، لو فعل بالكفار لآمنوا، ولو كان في مقدوره ولم يفعل ولم يعطهم لكان بخيلا [ ص: 187 ] ظالما، وغاية ما يقدر عليه مما به صلاح الخلق واجب عليه، وفعل لكل عبد مؤمن أو كافر غاية ما هو في مقدوره من مصلحة، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما هو في مقدوره من المصلحة فعل بأبي جهل مثله، وليس له على النبي صلى الله عليه وسلم إنعام، ليس ذلك على أبي جهل، ولو كان ذلك لكان ظالما فيما فعل جائرا، بل فعل غاية ما في مقدوره من مصلحة أبي جهل، وليس له أن يفعل بأحد ما هو المفسدة له البتة. هكذا نقله النسفي في العمدة عنهم .

وقال ابن التلمساني في شرح اللمع: اختلف البغداديون منهم والبصريون - مع اتفاقهم على أصل الوجوب على الله تعالى- فزعم البغداديون أنه يجب على الله تعالى رعاية الأصلح لعباده في دينهم ودنياهم، فلا يجوز في حكمه تبقية وجه من وجوه الصلاح في العاجل والآجل إلا ويفعله، فقالوا بناء على هذا الأصل: إن ابتداء الخلق واجب، ومن علم من خلقه أنه يكلفه فيجب عليه إكمال عقله، وإزاحة علله، وخلق الألطاف له، ثم قالوا: إن كل ما ينال العبد من الأمور المضرة والآلام فهو الأصلح له، وإذا ارتكب معصية فهو الذي اختار لنفسه الفساد، وتجب على الله معاقبته إن لم يتب، ولم تكن من الصغائر. قالوا: وهو الأصلح في حق الفاسد، وقد ورد الوعيد به، وعدم وقوعه خلف. وهؤلاء أخذوا مذاهبهم من الفلاسفة، وهو أن الله تعالى جواد، وأن الواقع في الوجود هو أقصى الإمكان، ولو لم يقع ذلك لم يكن جوادا، وقد ألزمت المعتزلة أن الله تعالى لا يكون له اختيار في ترك فعل البتة، ابتداء الخلق، ووجوب اختصاصه بالوقت المعين، ووجوب فعل الأصلح، ووجوب الثواب والعقاب، ولما استبعد البصريون منهم ذلك قالوا: لا يجب أصل الخلق، لكن متى أراد الله تعالى تكليف عبد فيجب عليه إكمال عقله وإزاحة علله، وما يترتب على فعله من الثواب والعقاب، وهو مبني على مسألة التحسين والتقبيح، وهو باطل كما سيأتي، والمبني على الباطل باطل، ومن مشهور دفع المعتزلة بإبطال ما زعموه مناظرة شيخ السنة أبي الحسن الأشعري مع أبي علي الجبائي رأس أهل الاعتزال، في أواخر الثلاثمائة، أوردها صاحب المواقف وغيره، والرازي في تفسيره، وهي مذكورة في أول شرح العقائد النسفية، وقد أشار إليهما المصنف حكاية بالمعنى بقوله: (وليت شعري) أي: علمي (ما) ذا (يجيب المعتزلي في) إثبات (قوله: إن الأصلح واجب عليه) تعالى، أي: رعايته (على مسألة نفرضها) أي: نقدرها (عليهم، وهو أن يفرض مناظرة في الآخرة بين صبي) أي: صغير (مات مسلما) وإنما قيده بذلك بناء على أن الأطفال الكفار لا يدخلون النار (وبين بالغ) ، وهو الذي بلغ أشده فصار مكلفا (مات مسلما) أي: طائعا (فإن الله تعالى يزيد في درجات البالغ) ويرفعه (ويفضله على الصبي) المذكور (لأنه تعب بالإيمان و) الاجتهاد في (الطاعات بعد البلوغ) الذي هو من التكليف (ويجب عليه) تعالى (ذلك) ، أي: إثابة المطيع (عند المعتزلي) على حسب أصولهم في رعاية الأصلح (فلو قال الصبي) المذكور: (يا رب لم رفعت منزلته علي) وزدته في الدرجات؟ (فيقول) الله تعالى: (لأنه بلغ) سن التكليف وتوجه إليه الأمر والنهي (واجتهد في الطاعات) وأقلع عن المنهيات، (فيقول الصبي) إذ ذاك: رب (أنت أمتني في سن الصبا) وأوان الطفولية (فكان يجب) عليك (أن تديم حياتي حتى أبلغ فاجتهد) في الطاعة فأنال منزلة رفيعة مثله (فقد عدلت) أي: جرت (عن العدل في التفضيل عليه بطول العمر دوني، فلم فضلته) علي؟ (فيقول الله) تبارك و (تعالى) لذلك الصبي: (لأني علمت أنك لو بلغت) سن التكليف (لأشركت) بي (أو عصيت) أمري (فكان الأصلح لك الموت في) سن (الصبا. هذا عذر المعتزلي عن الله عز وجل، وعند هذا ينادي الكفار من دركات لظى) وهو اسم طبقة من طبقات جهنم، واستعمال الدركات فيها كاستعمال الدرجات في الجنة، (ويقولون) جميعا: (إلهنا، أما علمت أننا إذا بلغنا أشركنا) أو عصينا (فهلا أمتنا في) سن (الصبا، فإنا قد رضينا بما دون منزلة الصبي المسلم؟ فبماذا يجاب عن ذلك) السؤال؟ (وهل يجب عند هذا إلا القطع) والجزم (بأن الأمور الإلهية) بما فيها من خفايا الحكم والأسرار (تتعالى) وتترفع (بحكم الجلال) ، وهو احتجاب الحق عنا بعزته (عن أن توزن بميزان الاعتزال) المائل عن سمت الاعتدال .

[ ص: 188 ]


(تنبيه)

هذه المسألة المفروضة أوردها ابن الهمام في المسايرة، وجعلها مناظرة بين الأشعري والجبائي، قال: وكان يتلمذ له على مذهبه، فتاب وصار إماما في السنة، فقال الأشعري للجبائي: أرأيت لو أن صبيا مات.. إلخ، وفيه أن قوله: فيقول الله عز وجل: لأنه بلغ واجتهد; هو جواب الجبائي، وعند هذا ينادي الكفار.. إلخ هو رد الأشعري على الجبائي، وفي آخره: فانقطع الجبائي وتاب الأشعري عن الاعتزال، وأخذ في نقض قواعد المعتزلة، وهو أظهر مما في المواقف، وأول شرح العقائد أنه ناظره في ثلاثة إخوة مات أحدهم مطيعا والآخر عاصيا والثالث صغيرا، وألزمه في قول العاصي: يا رب، لم لم تمتني صغيرا لئلا أعصي لك أمرا فلا أدخل النار؟ لما يتخيل أن لهم رفع الإلزام به بأن إماتته للصغير في صغره للعلم بأنه لو بلغ كفر وأضل غيره، فأماته لمصلحة الغير، سيما إذا كان الغير كثير الظهور رجحانه، وليس في إبقاء العاصي ذلك، كما تصدى أبو الحسن لرفع الإلزام به عن شيخه الجبائي بعد أربعة أدوار أو أكثر، لكنه تحكم كما في التفسير الكبير، ويلزمهم منع النفع عمن لا جناية له; لإصلاح غيره، وهو ظلم عندهم; فإن مذهبهم وجوب الأصلح بالنسبة إلى الشخص، لا بالنسبة إلى الكل، من حيث الكل، كما ذهب إليه الفلاسفة في نظام العالم، كما في شرح العضدية، وأنه لو منعه لذلك فكيف لم يمت قبل البلوغ فرعون وزرادشت وغيرهما من المضلين لإصلاح كثير من العالمين، كما في التبصرة وشرح المقاصد، فلا وجه لما قيل: إن للجبائي أن يقول: الأصلح واجب على الله إذا لم يوجب تركه حفظ أصلح آخر موجبه بالنسبة إلى شخص آخر، فلعله كان إماتة الأخ الكافر موجبة لكفر أبويه وأخيه; لكمال الجزع على موته، فكان الأصلح لهم حياته، فلما حفظ هذا الأصلح وجب فوت الأصلح له; لعله كان في نسله صلحاء كان الأصلح لهم إيجادهم; فلرعاية الكثيرين فات الأصلح، وإذا تأملت ما ذكرت ظهر لك أن المصنف أعرض عن هذه المناظرة وقلبها في صورة أخرى مفروضة لانطباق مقصوده عليها .

ويقرب من هذا سياق ابن التلمساني في شرح اللمع، حيث قال: وقد ألزمهم الأصحاب فيمن أماته الله صغيرا، وفيه حرمانه ما يترتب على التكليف من الثواب الجزيل، فإن قالوا: علم الله منه أنه لو بلغ وكلفه لما آمن; قلنا: فيلزمكم أن يميت الله تعالى سائر الكفار دون البلوغ; لعلمه أنهم لا يؤمنون، فهو أصلح لهم من بقائهم وتخليدهم في النار. اهـ .

وسياق النسفي في الاعتماد، ثم يقال لهم: صبي عاش حتى بلغ وأسلم وختم بالإسلام، وصبي مات في صغره، وصبي بلغ وكفر وارتد بعد الإسلام، فلم أبقى الصبي الأول؟ فإن قالوا: لأنه أصلح له، فإنه ينال بإسلامه وما أتى به من الطاعات الأجر العظيم; قيل: لم لم يبق الثاني؟ فإن قالوا: لأن ذلك أصلح له; لأنه تعالى علم أنه لو بلغ لكفر واستحق الخلود في النار، فكانت إماتته صغيرا أصلح له; قيل لهم: لم لم يمت الثالث؟ ولا انفصال لهم عن هذه البتة، فتأمل .



(فصل)

ومن أجوبة الماتريدية في الرد عليهم من النقل والعقل: أما الأولى فقوله تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ، ولو لم يكن في مقدوره ما لو فعل بهم لآمنوا لم تكن لهذه الآية فائدة ادعاء قدرة ومشيئة ليستا له، كفعل المتكلف الذي يتحلى بما ليس فيه، وقوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ، ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ، ففي الآيتين دليل على بطلان القول بالأصلح; إذ عندهم كل ما يفعله تعالى عليه أن يفعل كذلك في الحكمة، وكل من فعل ما عليه فعله فإنه لا يوصف بالفضل والإفضال، فمقتضى مذهبهم لا يكون من الله تعالى تفضيل لبعض الرسل، وهو خلاف النص، وبالسنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو أراد الله تعالى بالنملة صلاحا ما أنبت لها جناحا"، والحديث صحيح من رواية علي رضي الله عنه، وبالوجود فإن الله تعالى فعل بالكافر ما لا صلاح له فيه، بل له فيه مفسدة، حيث أبقاه إلى وقت بلوغه، وركب فيه العقل، مع علمه بأنه لا يؤمن، بل يكفر، ولا شك أن إماتته في صغره وعدم تمييزه أصلح له; إذ علم أنه يكفر عند بلوغه واعتدال عقله، وكذا من عاش مدة على الإسلام ثم ارتد بعد ذلك، فإن بقاءه مع علمه بأنه يرتد ليس بمصلحة له، وقد فعل ذلك، ولو كان تعالى قبض روحه [ ص: 189 ] قبل ارتداده بساعة لكان أصلح له، وكذا إبقاء الكافرين وإيلامهم; ليزدادوا إثما، وبالإجماع فإن المسلمين وأهل الأديان كلهم يطلبون المعونة من الله تعالى على الطاعات، والعصمة عن السيئات، وكشف ما بهم من البليات، وقد نطق النص بذلك، ثم الحال لا يخلو إن كان ما سألوا من المعونة والعصمة آتاهم الله تعالى أو لم يؤتهم، فإن كان آتاهم فسؤالهم سفه وكفران للنعم; إذ السؤال لما كان عند العقلاء لما لم يكن موجودا فيسأل، كان الاشتغال بالسؤال إلحاقا لهذه النعمة الموجودة بالمعدوم، وجل تعالى أن يأمر في كتبه المنزلة على الأنبياء أن يشتغلوا بما هو سفه وكفران للنعمة، وإن لم يؤتهم فلا يخلو إما أن يجوز له ألا يؤتيهم، أو لا يجوز، فإن كان لا يجوز له ألا يؤتيهم بل يجب عليه على وجه كان بمنعه ظالما، وكان السؤال في الحقيقة كأنهم قالوا: اللهم لا تظلمنا بمنع حقنا المستحق عليك، ولا تجر علينا، ومن ظن أن الأنبياء والأولياء اشتغلوا بمثل هذا الدعاء فقد كفر من ساعته، وإن كان يجوز ألا يؤتيهم ذلك فقد بطل مذهبهم، وبالمعقول ففيه تسفيه الله تعالى في طلب شكر ما أدى; إذ الشكر يكون على الإفضال دون قضاء الحق وتناهي قدرة الله تعالى، حيث لا يقدر على أن يفعل بأحد أصلح مما فعل، ولم يسبق في مقدوره ولا في خزائن رحمته أنفع لهم مما أعطاهم، وإبطال منة الله تعالى على عباده بالهداية، حيث فعل ما فعل على طريق قضاء حق واجب عليه، ولا منة في هذا، فيكون الله تعالى بقوله: والله ذو الفضل العظيم ، وبقوله: بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ، متصلفا; إذ لا فضل ولا منة في قضاء مستحق عليه، وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية