الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وحكي أن أبا العباس بن عطاء دخل على الجنيد في وقت نزعه فسلم عليه فلم يجبه ثم أجاب بعد ساعة ، وقال اعذرني : فإني كنت في وردي ثم ولى وجهه إلى القبلة وكبر ومات .

وقيل: للكتاني لما حضرته الوفاة : ما كان عملك ؟ فقال : لو لم يقرب أجلي ما أخبرتكم به ، وقفت على باب قلبي أربعين سنة فكلما مر فيه غير الله حجبته عنه .

وحكي ، عن المعتمر قال : كنت فيمن حضر الحكم بن عبد الملك حين جاءه الحق فقلت : اللهم هون عليه سكرات الموت فإنه كان وكان فذكرت محاسنه فأفاق فقال : من المتكلم ؟ فقلت : أنا ، فقال : إن ملك الموت عليه السلام يقول لي : إني بكل سخي رفيق ثم طفئ .

ولما حضرت يوسف بن أسباط الوفاة شهده حذيفة فوجده قلقا فقال : يا أبا محمد هذا أوان القلق والجزع ، فقال : يا أبا عبد الله وكيف لا أقلق ولا أجزع وإني لا أعلم أني صدقت الله في شيء من عملي ، فقال حذيفة: واعجبا لهذا الرجل الصالح يحلف عند موته أنه لا يعلم أنه صدق الله في شيء من عمله .

وعن المغازلي قال : دخلت على شيخ لي من أصحاب هذه الصفة وهو عليل وهو يقول يمكنك أن تعمل ما تريد فارفق بي ودخل بعض المشايخ على ممشاد الدينوري في وقت وفاته ، فقال له : فعل الله تعالى وصنع من باب الدعاء ، فضحك ثم قال : منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بما فيها فما أعرتها طرفي .

وقيل : لرويم عند الموت قل : لا إله إلا الله ، فقال : لا أحسن غيره .

ولما حضر الثوري الوفاة قيل له : قل : لا إله إلا الله ، فقال : أليس ثم أمر ودخل المزني على الشافعي رحمة الله عليهما في مرضه الذي توفي فيه فقال له : كيف أصبحت يا أبا عبد الله ؟ فقال : أصبحت من الدنيا راحلا وللإخوان مفارقا ولسوء عملي ملاقيا ولكأس المنية شاربا وعلى الله تعالى واردا ، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها ؟ ثم أنشأ يقول .

:

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما     تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما     فما زلت ذا عفو عن الذنب
لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما     ولولاك لم يغوى بإبليس عابد
فكيف وقد أغوى صفيك آدما

ولما حضر أحمد بن خضرويه الوفاة سئل عن مسألة فدمعت عيناه وقال : يا بني باب كنت أدقه خمسا وتسعين سنة هو ذا يفتح الساعة لي لا أدري أيفتح بالسعادة أو الشقاوة فأنى لي أوان الجواب .

فهذه أقاويلهم وإنما اختلفت بحسب اختلاف أحوالهم فغلب على بعضهم الخوف وعلى بعضهم الرجاء وعلى بعضهم الشوق والحب فتكلم كل واحد منهم على مقتضى حاله والكل صحيح بالإضافة إلى أحوالهم .

التالي السابق


(وحكي أن أبا العباس) أحمد بن محمد بن سهل (بن عطاء) الأودي من أقران الجنيد (دخل على الجنيد في وقت نزعه فسلم عليه فلم يجبه ثم أجاب بعد ساعة، وقال: اعذرني فإني كنت في وردي) الذي التزمته فما أمكنني قطعه لرد السلام (ثم ولى وجهه إلى القبلة وكبر ومات) نقله القشيري في الرسالة بلفظ: وقيل: دخل ابن عطاء على الجنيد وهو يجود بنفسه فسلم فأبطأ في الجواب، ثم رد وقال: اعذرني فلقد كنت في وردي ثم مات .

(وقيل: للكتاني) أبي بكر محمد بن علي البغدادي من أصحاب الجنيد مات بمكة سنة 322 (لما حضرته الوفاة: ما كان عملك؟ فقال: لو لم يقرب أجلي ما أخبرتكم، وقفت على باب قلبي أربعين سنة فكلما مر فيه غير الله حجبته عنه، وحكي عن المعتمر قال: كنت فيمن حضر الحكم بن المطلب) بن عبد الله بن المطلب بن حنطب بن الحارث بن عبيد بن عمرو بن مخزوم المخزومي أحد أجداد بني مخزوم قدم منبج وسكنها مرابطا ترجمته في تاريخ حلب مبسوطة، ووالده المطلب روى له البخاري في جزء القراءة والأربعة، وهو صدوق كثير التدليس والإرسال وأخوه عبد الله بن المطلب مدني روى له النسائي (حين جاءه الحق فقلت: اللهم هون عليه سكرات الموت فإنه كان وكان فذكرت محاسنه فأفاق فقال: من المتكلم؟ فقلت: أنا، فقال: إن ملك الموت عليه السلام يقول لي: إني بكل سخي رفيق ثم طفئ) .

رواه الزبير بن بكار في أنساب قريش، قال: سمعت القاسم بن محمد بن المعتمر بن عياض بن حميد بن عوف الزهري يحدث أبي يمنى سنة أربع وتسعين ومائة، قال: حدثني حميد بن معيوف الهمداني عن أبيه معيوف بن يحيى قال: كنت فيمن حضر الحكم بن المطلب المخزومي عند موته بمنبج فأغمي عليه ولقي شدة، فقال بعض من حضره: اللهم هون عليه فأفاق وقال: من المتكلم؟ فقال المتكلم: أنا، فقال: هذا ملك الموت يقول لي إني بكل سخي رفيق.

وقد أخرجه محمود بن محمد في كتاب المتفجعين، فقال: حدثنا أحمد بن الأسود الحنفي، حدثنا الزبير بن بكار فساقه، وقد عرفت بهذا أن المعتمر في سياق المصنف ليس هو التميمي كما يظن به عند بادئ الرأي، وليس له رواية في هذه القصة وإنما هي لحفيده، وقال محمود أيضا: حدثنا عبيد الله بن محمد، حدثنا مصعب الزبيري، قال: مات ابن المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب يقال له: الحارث أبو الحكم وعبد العزيز، وكان موته بمكة فحج أبوه من قابل فلما أتى قبره قال: يا بني أتيتك زائرا ومشتاقا فلم أرك وشهق شهقة فخر ميتا فدفن إلى جنبه (ولما حضرت) أبا محمد (يوسف بن أسباط) الشيباني الزاهد (الوفاة شهده حذيفة) المرعشي وكان بينهما توادد (فوجده قلقا) أي: مضطربا (فقال حذيفة: يا أبا محمد هذا أوان القلق والجزع، فقال: يا أبا عبد الله كيف لا أقلق ولا أجزع وإني لا أعلم أني صدقت الله في شيء من عملي، فقال حذيفة: واعجبا لهذا الرجل يحلف عند موته أنه لا يعلم أنه صدق الله في شيء من عمله) .

وقد روى أبو نعيم في الحلية من طريق موسى بن طريف قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: لي أربعون سنة ما حك في صدري شيء إلا تركته [ ص: 344 ] (وعن) أبي أحمد (المغازلي) له ذكر في الرسالة (قال: دخلت على شيخ من أصحاب هذه القصة وهو عليل) محتضر (وهو يقول) مخاطبا لربه: (يمكنك أن تعمل بي ما تريد فارفق بي) طلب من الله تعالى أن يرفق به في قبض الروح (ودخل بعض المشايخ على ممشاد الدينوري في وقت وفاته، فقال له: فعل الله تعالى بك وصنع من باب الدعاء، فضحك ثم قال: منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بما فيها فما أعرتها طرفي) وهو يشير إلى مقام الاستغراق بالله فلا يرى شيئا سواه من النعيم، ولفظ القشيري في الرسالة: ما فعل الله بك وصنع؟ فقال: منذ ثلاثين سنة. إلخ. وفي بعض النسخ فقالوا: أبشر فقد فعل الله بك وصنع، وزاد في آخره: وقالوا له عند النزع: كيف تجد قلبك؟ فقال: منذ ثلاثين سنة فقدت قلبي (وقيل: لرويم) بن محمد البغدادي (عند الموت قل: لا إله إلا الله، فقال: لا أحسن غيره ولما حضر) أبا الحسين (النوري) بضم النون (الوفاة قيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: أليس ثم أمر) ولفظ الرسالة: أليس ثم أعود؟ قال القشيري: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: كان سبب وفاة أبي الحسين النوري أنه سمع هذا البيت:


لا زلت أنزل من ودادك منزلا تتحير الألباب عند نزوله

فتواجد النوري وهام في الصحراء فوقع في أجمة قصب قد قطعت، وبقي أصوله مثل السيوف فكان يمشي عليها، ويعيد البيت إلى الغداة والدم يسيل من رجليه، ثم وقع مثل السكران فورمت قدماه فمات، وقد تقدم للمصنف ذلك في كتاب الوجد والسماع (ودخل أبو يحيى) إسماعيل (المزني على الشافعي -رحمة الله عليهما- في مرضه الذي توفي فيه فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلا وللإخوان مفارقا ولسوء عملي ملاقيا وبكأس المنية شاربا وعلى الله تعالى واردا، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها؟ ثم أنشأ يقول:


ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي تحت عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما
ولولاك لم يغوى بإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما )



رواه البيهقي في مناقبه (ولما حضر) أبا حامد (أحمد بن خضرويه) البلخي من كبار مشايخ خراسان، صحب أبا تراب النخشبي، وكان كبيرا في الفتوة (الوفاة سئل) عن مسألة (فدمعت عيناه وقال: يا بني باب كنت أدقه خمسا وتسعين سنة هو ذا يفتح الساعة لي لا أدري أيفتح بالسعادة أو بالشقاوة فأنى لي أوان الجواب) .

ولفظ القشيري في الرسالة: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: كنت جالسا عند أحمد بن خضرويه وهو في النزع وكان قد أتى عليه خمس وتسعون سنة فسأله بعض أصحابه عن مسألة فدمعت عيناه وقال: يا بني باب كنت أدقه منذ خمس وتسعين سنة هو ذا يفتح لي الساعة لا أدري بالسعادة أم بالشقاوة أنى لي أوان الجواب، قال وكان عليه سبعمائة دينار وغرماؤه عنده فنظر إليهم، وقال: اللهم إنك جعلت الرهون وثيقة لأرباب الأموال وأنت تأخذ عنهم وثيقتهم اللهم فأدهم عني، قال: فدق داق الباب وقال: أين غرماء أحمد فقضى عنه ثم خرجت روحه، مات سنة أربعين ومائتين .

ورواه أبو نعيم في الحلية، فقال: حدثنا محمد بن الحسين بن موسى قال: سمعت منصور بن عبد الله، فساقه مثله، ومما ذكره القشيري من أحوال المحتضرين قال: حكي عن عبد الله بن منازل أنه قال: إن حمدون القصار أوصى إلى أصحابه أن لا يتركوه حال الموت بين النسوان، وقيل: لما حضر بعضهم الوفاة قال: يا غلام اشدد كتافي وعفر خدي، ثم قال: دنا الرحيل ولا براءة لي من ذنب، ولا عذر أعتذر به، ولا قوة أنتصر بها أنت لي، ثم صاح صيحة ومات فسمعوا صوتا استكان العبد لمولاه فقبله، وقال بعضهم: كنت عند ممشاد عند مماته فقيل له: كيف تجد العلة؟ فقال: سلوا العلة عني، فقيل: لا إله إلا الله فحول وجهه إلى الجدار، وقال:


أفنيت كلي بكلك هذا جزاء من يحبك

وقيل لأبي محمد الدبيلي وقد حضرته الوفاة: قل: لا إله إلا الله، فقال: هذا شيء عرفناه وبه نفتي، ثم أنشأ يقول:

[ ص: 345 ]

تسربل ثوب التيه لما عرفته وصد ولم يرض بأن أك عبده



وقيل: للشبلي عند وفاته قل: لا إله إلا الله، فقال:


قال سلطان حبه أنا لا أقبل الرشا
فسلوه فديته


لم بقتلي تحرشا



قلت: هذا قد رواه ابن الجوزي في كتاب الثبات، فقال: أنبأنا ابن ناصر عن ابن المبارك بن عبد الجبار عن أبي علي الحسن بن غالب، قال: سمعت أبا الحسن السوسنجردي يقول: قالت أخت الشبلي: كان أخي ينزع وأنا عنده فقلت: يا أخي قل: لا إله إلا الله فقال: إن سلطان حبه ، قال: لا أقبل الرشا، ثم مات رحمه الله تعالى، ثم قال القشيري: سمعت أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: سمعت بعض الفقراء يقول: لما مرض يحيى الإصطخري جلسنا حوله فقال له رجل منا: قل: أشهد أن لا إله إلا الله فجلس مستويا ثم أخذ بيد واحد منا، وقال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله ثم أخذ بيد الآخر حتى عرض الشهادة على جميع الحاضرين ثم مات قال: وسمعت بعض الفقراء يقول: لما قرب وفاة أحمد بن نصر قال له واحد: اشهد أن لا إله إلا الله فنظر إليه فقال له بالفارسية "بي حرمتي مكن" أي: لا تترك الحرمة، وقال بعضهم: رأيت فقيرا يجود بنفسه غريبا والذباب يقع على وجهه فجلست أذب عن وجهه ففتح عينيه، وقال: من هذا أنا منذ كذا وكذا سنة في طلب وقت يصفو لي فلم يتفق إلا الآن جئت أنت توقع نفسك؟ مر، عافاك الله، قال: وسمعت منصور المغربي يقول: دخل يوسف بن الحسين على إبراهيم الخواص عائدا له بعد ما أتى عليه أيام لم يعده ولم يتعهده فلما رآه قال للخواص: أتشتهي شيئا؟ قال: نعم قطعة كبد مشوي، قال القشيري: لعل الإشارة فيه أنه أراد أشتهي قلبا يرق لفقير وكبدا يشتوي لغريب لأنه كالمستحفي ليوسف بن الحسين حيث لم يتعهده قال: وسمعت محمد بن أحمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سمعت أبا بكر الرقي يقول: كنا عند أبي بكر الزقاق بالغداة، فقال: إلهي كم تبقيني ههنا فما بلغ الصلاة الأولى حتى مات، قال: وحكي عن أبي علي الروذباري أنه قال: رأيت بالبادية شابا حدثا فلما رآني قال: ما يكفيه شغفي بحبه حتى أعلمني ثم رأيته يجود بروحه، فقلت: قل: أشهد أن لا إله إلا الله فأنشأ يقول .. .


أيا من ليس لي منه وإن عذبني بد
ويا من نال من قلبي منالا ما له حد
أجرني من تجنيك فقد أقلقني الجهد
إذا لم يرحم المولى إلى من يشتكي العبد

قال: وسمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا الحسن الطرطوسي يقول: سمعت علوش الدينوري يقول: سمعت المزني الكبير يقول: كنت بمكة فوقع بي انزعاج فخرجت أريد المدينة فلما وصلت إلى بئر ميمونة إذا أنا بشاب مطروح فعدلت إليه وهو ينزع فقلت له: قل: أشهد أن لا إله إلا الله ففتح عينيه فأنشأ يقول:


أنا إن مت فالهوى حشو قلبي وبداء الهوى يموت الكرام

ثم مات فغسلته وكفنته وصليت عليه فلما فرغت من دفنه سكن ما كان بي من إرادة السفر فرجعت إلى مكة قال وقيل لبعضهم: أتحب الموت؟ قال: القدوم على من يرجى خيره خير من البقاء مع من لا يؤمن شره، قلت: رواه أبو نعيم في الحلية من طريق عبد ربه بن صالح قال: دخل علي مكحول في مرضه الذي مات فيه، فقيل له: أحسن الله عاقبتك يا أبا عبد الله، فقال: كلا الإلحاق بمن يرجى عفوه خير من البقاء مع من لا يؤمن شره. اهـ .

ثم قال: وحكي عن الجنيد أنه قال كنت عند أستاذي ابن الكرنبي وهو يجود بنفسه فنظرت إلى السماء فقال: بعد، ثم نظرت إلى الأرض فقال: بعد يعني أنه أقرب إليك من أن تنظر إلى السماء أو إلى الأرض بل هو وراء المكان قال: وسمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الوجيهي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: دخلت مصر فرأيت الناس مجتمعين، فقالوا: كنا في جنازة فتى سمع قائلا يقول:


كبرت همة عبد طمعت في أن يراكا

فشهق شهقة ثم مات، وقد تقدم في كتاب السماع ورواه ابن الملقن في الطبقات وزاد بيتا:


أوما حسب لعين أن ترى ما قد رآك

قال القشيري: وسمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي، يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: قال الوجيهي: كان [ ص: 346 ] سبب موت بنان الحمال أنه ورد على قلبه شيء فهام على وجهه فلحقوه في وسط متاهة بني إسرائيل في الرمل ففتح عينيه، وقال: أربع فهذا مربع الأحباب وخرجت روحه، وقال أبو يعقوب النهرجوري: كنت بمكة فجاءني فقير ومعه دينار فقال: إذا كان غدا أموت فأصلح لي بنصف هذا قبرا والنصف لجهازي فقلت في نفسي كأنه أصابته فاقة الحجاز فلما كان بالغد جاء ودخل الطواف، ثم مضى وامتد على الأرض فقلت: هو ذا يتماوت فذهبت إليه فحركته فإذا هو ميت فدفنته كما أمر، وقيل: لما تغيرت الحال على أبي عثمان الحيري مزق ابنه أبو بكر قميصا ففتح أبو عثمان عينيه، وقال: إن خلاف السنة في الظاهر من رياء في الباطن .

وحكى أبو علي الروذباري، قال: قدم علينا فقير فمات فدفنته، وكشفت عن وجهه لأضعه في التراب ليرحم الله غربته ففتح عينيه، وقال: يا أبا علي أتذللني بين يدي من ذللني؟ فقلت: يا سيدي أحياة بعد موت؟ فقال: بلى أنا حي وكل محب لله حي لأنصرنك غدا بجاهي يا روذباري، ورواه ابن الملقن في الطبقات، ولفظه: قدم علينا فقير في يوم عيد في هيئة رثة، فقال: هل عندك مكان نظيف يموت فيه فقير غريب؟ فقلت له كالمتهاون به: ادخل ومت حيث شئت، فدخل فتوضأ وصلى ركعات، ثم اضطجع فمات فجهزته والباقي سواء .

قال: ويحكى عن علي بن سهل الأصبهاني أنه قال: أترون أني أموت كما يموت الناس مرض وعيادة؟ إنما أدعي فيقال لي: يا علي فأجيب فكان يمشي يوما فقال: لبيك ومات، قال: وسمعت محمد بن عبد الله الصوفي، يقول: سمعت أبا عبد الله بن خطيف يقول: سمعت أبا الحسن المزني الكبير يقول: لما مرض أبو يعقوب النهرجوري مرض وفاته قلت له وهو في النزع: قل لا إله إلا الله فتبسم إلي وقال: إياي تعني وعزة من لا يذوق الموت ما بيني وبينه إلا حجاب العزة وانطفأ من ساعته، وكان المزني يأخذ بلحيته ويقول: حجام مثلي يلقن أولياء الله الشهادة واخجلتاه منه، وكان يبكي إذا ذكر هذه الحكاية، وقال أبو الحسين المالكي: كنت أصحب خيرا النساج سنين كثيرة، فقال لي قبل موته بثمانية أيام أنا أموت يوم الخميس وقت المغرب وأدفن يوم الجمعة بعد الصلاة وستنسى هذا فلا تنس، قال أبو الحسين فأنسيته إلى يوم الجمعة فلقيني من خبرني بموته فخرجت لأحضر جنازته فوجدت الناس راجعين يقولون: يدفن بعد الصلاة فلم أنصرف وحضرت فوجدت الجنازة، قد أخرجت قبل الصلاة كما قال سألت من حضر وفاته فقال: إنه غشي عليه، ثم أفاق، ثم التفت إلى ناحية البيت، وقال: قف عافاك الله فإنما أنت عبد مأمور وأنا عبد مأمور والذي أمرت به لا يفوتك والذي أمرت به يفوتني فدعا بماء وجدد وصلى، ثم تمدد وغمض عينيه فرئي في المنام بعد موته وقيل: له كيف حالك؟ فقال: لا تسأل لكن تخلصت عن دنياكم الوضرة .

قلت: وقد رواه أبو نعيم في الحلية فقال: سمعت علي بن هارون الحربي يحكي عن غير واحد ممن حضر موت خير النساج من أصحابه أنه غشي عليه عند صلاة المغرب، ثم أفاق ونظر إلى ناحية من باب البيت فساقه، وفيه بعد قوله: يفوتني، فدعني أمضي لما أمرت به والباقي سواء .

قال القشيري: وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر بن قيس يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: كنت بمكة فجزت يوما بباب بني شيبة فرأيت رجلا حسن الوجه ميتا فنظرت في وجهه فتبسم في وجهي، وقال لي: يا أبا سعيد أما علمت أن الأحباء أحياء وإن ماتوا وإنما ينقلون من دار إلى دار، وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: بلغني أنه قيل لذي النون عند النزع: أوصنا قال: لا تشغلوني فإني متعجب من محاسن لطفه، وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت أبا عثمان الحيري، يقول: سئل أبو حفص في حال وفاته ما الذي تعظنا به؟ فقال: لست أقوى على القول، ثم رأى من نفسه قوة فقلت له: حتى أحكي عنك، فقال: الانكسار بكل القلب على التقصير .

هذا كله سياق القشيري في الرسالة، ومما نقلته من طبقات ابن الملقن قال الحسين بن الفضل: حضرت أبا الحسين النوري وهو في الموت فقلت له: ألك حاجة أو في نفسك شهوة؟ فرفع رأسه إلي وقد انكسر لسانه، فقال: إي والله أشتهي شهوة كبيرة، فقلت: وما هي؟ قال: أشتهي أرى الله تعالى، ثم تنفس عاليا كالواجد بحاله وفارق الدنيا، قال: وقال الجنيد: دخلت على السري وهو في النزع فجلست عند رأسه ووضعت خدي على خده فدمعت عيناي فوقع دمعي على خده، وقال لي: من أنت؟ قلت: خادمك الجنيد فقال: مرحبا، فقلت: أوصني بوصية أنتفع بها، قال: إياك ومصاحبة الأشرار وأن تنقطع [ ص: 347 ] عن الله بصحبة الأغيار، ولما حضرته الوفاة قلت له: يا سيدي لا يرون بعدك مثلك قال: ولا أخلف عليهم بعدي مثلك، قال: وقيل لحبيب العجمي في مرض الموت: ما هذا الجزع الذي ما كنا نعرفه منك؟ فقال: سفري بعيد بلا زاد، وينزل بي في حفرة من الأرض موحشة بلا مؤنس، وأقدم على ملك جبار قد قدم إلى العذر، ويروى أنه جزع جزعا شديدا عند الموت فجعل يقول: أريد سفرا ما سافرته قط، أريد أن أسلك طريقا ما سلكته قط أريد أن أزور سيدي ومولاي ما رأيته قط، أريد أن أدخل تحت التراب وأبقى إلى يوم القيامة، ثم أقف بين يدي الله تعالى فأخاف أن يقول لي: يا حبيب هات تسبيحة واحدة سبحتني في ستين سنة لم يظفر الشيطان فيها بشيء، فماذا أقول وليس لي حيلة، أقول: يا رب هو ذا قد أتيتك مقبوض اليدين إلى عنقي، قال الراوي: فهذا رجل عبد الله ستين سنة مشتغلا به ولم يشتغل من الدين بشيء قط فكيف حالنا، وقال ابن الجوزي في كتاب الثبات: أخبرنا عمر بن ظفر، أخبرنا جعفر بن أحمد، حدثنا عبد العزيز بن علي، أخبرنا أبو الحسن بن جهضم، أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى، حدثني يوسف بن الحسين قال: قال فتح بن شخرف: دخلت على ذي النون المصري عند موته فقلت: كيف تجدك؟ فقال:


أموت وما ماتت إليك صبابتي ولا رويت من صدق حبك أوطاري
مناي المنى كل المنى أنت لي مني وأنت الغني كل الغنى عند إقتاري
وأنت مدى سؤلي وغاية رغبتي وموضع آمالي ومكنوف إضماري
وبين ضلوعي منك ما لا أبثه ولم أبد باديه لأهل ولا جار
سرائر لا تخفى عليك خفيها وإن لم أبح حتى التنادي بأسراري
فهب لي نسيما منك أحيا بروحه و وجد لي بيسر منك يطرد إعساري
أنرت الهدى للمهتدين ولم يكن من العلم في أيديهم عشر معشار
فأبصارهم محجوبة وقلوبهم تراك بأوهام حديدات أبصار
ألست دليل الركب إن هم تحيروا وعصمة من أمسى على جرف هار



قال الفتح بن شخرف: فلما ثقل، قلت له: كيف تجدك؟ فقال:


وما لي سوى الإطراق والصمت حيلة ووضعي على خدي يدي عند تذكاري
وإن طرقتني عبرة بعد عبرة تجرعتها حتى إذا عيل تصباري
أفضت دموعا جمة مستهلة أطفي بها حرا تضمن أسراري
ولست أبالي فائتا بعد فائت إذا كنت في الدارين يا واحدي جاري



وأورده ابن الملقن في الطبقات من كتاب بهجة الأسرار لابن جهضم، وفيه زيادة أبيات منها بعد البيت الرابع:


تحمل قلبي فيك ما لا أبثه وإن طال سقمي فيك أو طال إضراري
ولي منك في الأحشاء داء مخامر وقد هدمني الركن وانبث إسراري

ومنها بعد البيت الثامن :


حملت لها القدر المفرق والتقى على قدر والهم يجري بمقدار

ومنها قبل البيت الأخير:


فيما منتهى سؤل المحبين كلهم أبحني محل الأنس مع كل زوار



وقال ابن جهضم بسنده إلى عبد الجبار، قال: صحبت فتح بن شخرف ثلاثين سنة فلم أره رفع رأسه إلى السماء فرفع رأسه وفتح عينيه، ونظر إلى السماء، وقال: طال شوقي إليك فعجل قدومي عليك فما أتى عليه الجمعة حتى مات، وقال صاحب مصارع العشاق بسنده إلى أبي إسماعيل الموصلي، وكان من أصحاب الفتح بن سعيد، شهد فتح العيد ذات يوم بالموصل، ورجع بعد ما تفرق الناس، ورجعت معه فنظر إلى الدخان يفور من نواحي المدينة فبكى، ثم قال: قد قرب الناس قربانهم فليت شعري، وما فعلت في قرباني عندك أيها المحبوب، ثم سقط مغشيا عليه فجئت بماء فمسحت به وجهه فأفاق، ثم مضى حتى دخل بعض أزقة المدينة فرفع رأسه إلى السماء، وقال: علمت طول حزني وغمي وتردادي في أزقة الدنيا فحتى متى تحبسني أيها المحبوب، ثم سقط مغشيا عليه فجئت بماء فمسحت به وجهه فأفاق [ ص: 348 ] فما عاش بعد ذلك أياما حتى مات .

وقال ابن الجوزي في كتاب الثبات: أخبرنا ابن ناصر، أخبرنا أحمد بن أحمد، حدثنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن محمد بن يوسف، حدثنا أبي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن القاسم خادم محمد بن أسلم الطوسي قال: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام، فقال: تعال أبشرك بما صنع الله بأخيك من الخير قد نزل بي الموت وقد من الله تعالى علي أنه ليس عندي درهم يحاسبني عليه أغلق الباب ولا تأذن لأحد علي حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا، وليس أدع ميراثا غير كسائي ولبدي وإنائي الذي أتوضأ فيه وكتبي، وكانت معه صرة كان فيها نحو ثلاثين درهما، فقال هذا لابني أهداه له قريب له ولا أعلم شيئا أحل لي منه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنت ومالك لأبيك فكفنوني منها، فإن أصبتم لي بعشرة دراهم ما يستر عورتي، فلا تشتروا بخمسة عشر، وابسطوا على جنازتي لبدي غطوا عليها بكسائي، وتصدقوا بإنائي أعطوه مسكينا يتوضأ منه ثم مات في اليوم الرابع، وقال أبو الحسن بن جهضم في بهجة الأسرار، أخبرنا أحمد بن محمد بن علي، حدثني عثمان بن سهل، قال: دخلت على عمرو بن عثمان المكي في علته التي توفي فيها، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: أجد سري واقفا مثل الماء لا يختار النقلة ولا المقام .

وقال الخطيب: أخبرنا أحمد بن علي المحتسب حدثنا الحسن بن الحسين بن حمكان سمعت أبا الحسن علي بن إبراهيم البغدادي يقول: سمعت أبا عبد الخالق باذي يقول: حضرنا يوسف بن الحسين وهو يجود بنفسه، فقال: اللهم إني نصحت خلقك ظاهرا وغششت نفسي باطنا، فهب لي غشي لنفسي لنصحي لخلقك، ثم خرجت روحه، وقال ابن الجوزي: قال أبو الوفاء بن عقيل: ونقلته من خطه، قال بعض أصحاب عبد الصمد الزاهد: حضرته عند موته وهو يقول: يا سيدي لليوم خبأتك ولهذه الساعة اقتنيتك حقق حسن ظني بك (فهذه أقاويلهم) عند سفرهم للآخرة (وإنما اختلفت بحسب اختلاف أحوالهم) من خوفهم ورجائهم وحبهم للقاء الله تعالى (فغلب على بعضهم الخوف وعلى بعضهم الرجاء وعلى بعضهم الشوق والحب) للقاء الله تعالى (فيتكلم كل واحد على مقتضى حاله) بما أقامه الله فيه (والكل صحيح بالإضافة إلى أحوالهم) وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية