الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال الحسن رحمه الله لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم أي أنهم بالتعليم يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية .

وقال عكرمة إن لهذا العلم ثمنا قيل : وما هو؟ قال : أن تضعه فيمن يحسن حمله ولا يضيعه .

وقال يحيى بن معاذ العلماء أرحم بأمة محمد صلى الله عليه وسلم من آبائهم وأمهاتهم ، قيل : وكيف ذلك ؟ قال : لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا وهم يحفظونهم من نار الآخرة .

وقيل : أول العلم الصمت ، ثم الاستماع ، ثم الحفظ ، ثم العمل ، ثم نشره .

وقيل : علم علمك من يجهل وتعلم ممن يعلم ما تجهل فإنك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت وحفظت ما علمت .

التالي السابق


(وقال الحسن) البصري: (لولا العلماء) بالله وبأحكام الله (لصار الناس) في جاهلية جهلاء (مثل البهائم) والأنعام لا يهتدون سبيلا (لأنهم) أي: الناس وفي نسخة: أي أنهم (بالتعليم) لأمور الدين (يخرجون الناس من حد البهيمية إلى حد الإنسانية) وتحقيق المقام أن الإنسان وإن كان هو بكونه إنسانا أفضل موجود فذلك إذ يراعي ما به صار إنسانا، وهو العلم والعمل المحكم، فبقدر وجود ذلك المعنى فيه يفضل، وهذا لا سبيل إليه إلا بالتعليم .

وأما هو من حيث ما يتغذى وينسل فنبات، ومن حيث ما يحس ويتحرك فحيوان، ومن حيث الصورة التخطيطية فكصورة في جدار، وإنما فضيلته بالنطق وقواه ومقتضاه؛ ولهذا قيل: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة، أو صورة ممثلة، وهذه المراتب لا تحصل له إلا بالتعليم، وبه يتميز من الحيوانية، ويخرج منها إلى حد الإنسانية، فالعلماء هم الذين يعلمون الناس بما يصيرون به إنسانا .

(وقال عكرمة) أبو عبد الله المفسر مولى ابن عباس، روى عن مولاه وعائشة وأبي هريرة وطائفة، وعنه أيوب وخالد الحذاء وخلق، روى له مسلم مقرونا، مات بعد المائة: (إن لهذا العلم) أراد به العلم بالله وأوامره وأحكامه (ثمنا) أي: قيمة وقدرا (قيل: وما ذلك) الثمن؟ قال: (أن تضعه) في موضعه (فيمن يحسن حمله) بأن يكون مراده بذلك العلم به والنفع لغيره بإيصاله إليه، لا لقصد المباهاة وغير ذلك (ولا تضيعه) بعدم العمل به، أو بوضعه فيمن لا يحسن حمله، فواضع العلم في غير أهله كمقلد الخنازير [ ص: 120 ] بالدر واليواقيت، وسيأتي ذلك .

وفي قول النسابة البكري: إن للعلم آفة ونكدا وهجنة، فآفته نسيانه، ونكده الكذب فيه، وهجنته نشره عند غير أهله .

(وقال يحيى بن معاذ) الرازي أحد أعيان الصوفية المشاهير: (العلماء أرحم) أي: أكثر رحمة وشفقة وحنوا (بأمة محمد) -صلى الله عليه وسلم- (من آبائهم وأمهاتهم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم) بمقتضى الشفقة المجبولين عليها (من نار الدنيا) أي: من الوقوع فيها (وهم يحفظونهم) بمقتضى الرحمة التامة والهداية العامة (من نار الآخرة) أي: يعلمونهم بما يكون سببا لنجاتهم منها .

وللعلماء في الأرحمية بهم وجوه أخر، كتغذيتهم إياهم بالحكمة التي بها قوام الروح، والأبوان يغذيانهم بما فيه قوام الجسد، والعلماء يحلونهم بالحياء والسكينة والوقار، والأبوان يسترانهم بلباس الظاهر، والعلماء بلباس الباطن .

(وقيل: أول العلم الصمت، ثم الاستماع، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم نشره) هذا القول روي عن كل من السفيانين .

فأخرج أبو نعيم في الحليلة في ترجمة ابن عيينة، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، سمعت بشر بن محمد الجرشي يقول سمعت ابن عيينة يقول: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العلم، ثم النشر.

وأخرج ابن الجوزي في ترجمة سفيان الثوري فقال: ويروى عن سفيان بطرق أنه قال: أول العلم الصمت، والثاني: الاستماع له وحفظه، والثالث العمل به، والرابع نشره وتعليمه. اهـ .

فللعلم مراتب خمس في قول ابن عيينة، وأربعة على قول الثوري، وفصل الخطاب في ذلك أن للعلم ست مراتب، أولها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات والاستماع، الثالثة: حسن الفهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة: وهي ثمرته هي العمل به ومراعاة حدوده .

فمن الناس من يحرمه لعدم حسن سؤاله، إما أنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم إليه منه، كمن يسأل عن فصوله التي لا يضر جهله بها ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذه حال كثير من الجهال المتعاطين .

ومن الناس من يحرمه لسوء اتصاله، فيكون الكلام والمعاواة عنده آثر من حسن الاستماع، وهذه آفة كائنة في أكثر النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنع علما كثيرا، ولو كان حسن الفهم .

ذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: من كان حسن الفهم رديء الاستماع لم يقم خيره بشره .

وذكر عبد الله بن أحمد في كتاب العلل له قال: كان عبد الله بن الزبير يحب مماراة ابن عباس، فكان يخزن علمه عنه. وكان عبيد الله بن عبد الله يلطف له في السؤال، فيعروه بالعلم عراء .

وقال ابن جريج: لم أستخرج العلم الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به، وقال بعض السلف: إذا جالست العالم فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وقد قال تعالى:إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم، وكيف تفتح مراعاتها للعبد أبواب العلم والهدى، وكيف ينغلق باب العلم عنه من إهمالها، وعدم مراعاتها؛ فإنه سبحانه ذكر أن آياته المسموعة والمرئية المشهودة إنما تكون تذكرة لمن كان له قلب؛ فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه، ولو مرت به كل آية، فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات فهو يراها، ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه إلا بأمرين:

أحدهما: أن يحضره ويشهده لما يلقى إليه، فإن كان غائبا عنه مسافرا في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به، فإذا أحضره وأشهده لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه، ويصغي بكليته إلى ما يوعظ به، ويرشد إليه، وهنا ثلاثة أمور: أحدها سلامة القلب وصحته وقبوله، الثاني: إحضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق، الثالث: إلقاء السمع وإصغاؤه والإقبال على الذكر، فذكر الله تعالى الأمور الثلاثة في هذه الآية .

وفي الكشاف: لمن كان له قلب واع; لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له، وإلقاء السمع الإصغاء، وهو شهيد: أي حاضر بفطنته؛ لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب. اهـ .

والمقصود بيان حرمان العلم من هذه الوجوه الستة، أحدها: ترك السؤال، الثاني: سوء الإنصات وعدم إلقاء السمع، الثالث: سوء الفهم، الرابع: عدم الحفظ، الخامس: عدم نشره وتعليمه، فإن من خزن علمه ولم ينشره ولم يعلمه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه [ ص: 121 ] جزاء من جنس عمله، السادس: من عدم العمل به؛ فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه، قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به، فالعمل به من أعظم أسباب حفظه وثباته. والله أعلم .

(وقيل: علم علمك من يجهل) أي: ليكن تعليمك للجاهلين (وتعلم ممن يعلم) أي: وتعلمك من العالمين، أي: إذا رأيت من دونك فأفده بما عندك، ولا تكتم عليه، وإذا رأيت من فوقك في العلم فاستفد منه بما ليس عندك (فإنك إذا فعلت ذلك علمت ما جهلت) بتعلمك من العالم (وحفظت) أي: أثبت واستوثقت (ما علمت) بإفادتك للغير، والمدارسة توجب الرسوخ في الذهن والثبات في الفكرة .




الخدمات العلمية