الباب الأول .
في ذكر الموت والترغيب في الإكثار من ذكره .
اعلم أن المنهمك في الدنيا المكب على غرورها ، المحب لشهواتها ، يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت فلا يذكره وإذا ذكر به كرهه ، ونفر منه ، أولئك هم الذين قال الله فيهم : قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ثم الناس إما منهمك وإما تائب مبتدئ أو عارف منته أما المنهمك فلا يذكر الموت وإن ذكره فيذكره للتأسف على دنياه ويشتغل بمذمته ، وهذا يزيده ذكر الموت من الله بعدا .
وأما التائب فإنه يكثر من لينبعث به من قلبه الخوف والخشية ، فيفي بتمام التوبة ، وربما يكره الموت خيفة من أن يختطفه قبل تمام التوبة ، وقبل إصلاح الزاد وهو معذور في كراهة الموت ولا يدخل هذا تحت قوله صلى الله عليه وسلم : ذكر الموت فإن هذا ليس يكره الموت ولقاء الله ، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره ، وهو كالذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه فلا يعد كارها للقائه . " من كره لقاء الله كره الله لقاءه "
وعلامة هذا أن يكون دائم الاستعداد له لا شغل له سواه ، وإلا التحق بالمنهمك في الدنيا وأما العارف فإنه يذكر الموت دائما لأنه موعد لقائه لحبيبه ، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب ، وهذا في غالب الأمر يستبطئ مجيء الموت ، ويحب مجيئه ، ليتخلص من دار العاصين ، وينتقل إلى جوار رب العالمين .
كما روي عن حذيفة أنه لما حضرته الوفاة قال : " حبيب جاء على فاقة ، لا أفلح من ندم ، اللهم إن كنت تعلم .
أن الفقر أحب إلي من الغنى ، والسقم أحب إلي من الصحة ، والموت أحب إلي من العيش ، فسهل علي الموت حتى ألقاك فإذن " التائب معذور في وهذا معذور في حب الموت وتمنيه ، وأعلى منهما رتبة من فوض أمره إلى الله تعالى ، فصار لا يختار لنفسه موتا ، ولا حياة بل يكون أحب الأشياء إليه أحبها إلى مولاه . كراهة الموت ،
فهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى مقام التسليم والرضا ، وهو الغاية والمنتهى .
وعلى كل حال فإن المنهمك أيضا يستفيد بذكر الموت التجافي عن الدنيا ، إذ ينغص عليه نعيمه ، ويكدر عليه صفو لذته . ففي ذكر الموت ثواب وفضل ،
وكل ما يكدر على الإنسان اللذات والشهوات فهو من أسباب النجاة .