الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
المرابطة الخامسة المجاهدة .

وهو أنه إذا حاسب نفسه فرآها قد قارفت معصية فينبغي أن يعاقبها بالعقوبات التي مضت وإن رآها تتوانى بحكم الكسل في شيء من الفضائل أو ورد من الأوراد فينبغي أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها ويلزمها فنونا من الوظائف جبرا لما فات منه وتداركا لما فرط فهكذا كان يعمل عمال الله تعالى فقد عاقب عمر بن الخطاب نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدق بأرض كانت له قيمتها مائتا ألف درهم وكان ابن عمر إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة وأخر ليلة صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين .

وفات ابن أبي ربيعة ركعتا الفجر فأعتق رقبة .

وكان بعضهم يجعل على نفسه صوم سنة أو الحج ماشيا أو التصدق بجميع ماله .

كل ذلك مرابطة للنفس ومؤاخذة لها بما فيه نجاتها .

فإن قلت: إن كانت نفسي لا تطاوعني على المجاهدة والمواظبة على الأوراد فما سبيل معالجتها فأقول سبيلك في ذلك أن تسمعها ما ورد في الأخبار من فضل المجتهدين ومن أنفع أسباب العلاج أن تطلب صحبة عبد من عباد الله مجتهد في العبادة فتلاحظ أقواله وتقتدي به وكان بعضهم يقول كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع وإلى اجتهاده فعملت على ذلك أسبوعا إلا أن هذا العلاج قد تعذر إذ قد فقد في هذا الزمان من يجتهد في العبادة اجتهاد الأولين فينبغي أن يعدل من المشاهدة إلى السماع فلا شيء أنفع من سماع أحوالهم ومطالعة أخبارهم وما كانوا فيه من الجهد الجهيد وقد انقضى تعبهم وبقي ثوابهم ونعيمهم أبد الآباد لا ينقطع فما أعظم ملكهم وما أشد حسرة من لا يقتدي بهم فيمتع نفسه أياما قلائل بشهوات مكدرة ثم يأتيه الموت ويحال بينه وبين كل ما يشتهيه أبد الآباد نعوذ بالله تعالى من ذلك .

التالي السابق


(المرابطة الخامسة المجاهدة وهو أنه إذا حاسب نفسه فرآها قارفت معصية ينبغي أن ) يخبرها بالتوبة والاستغفار ثم يرجع إليها (يعاقبها بالعقوبات التي مضت ) حتى أنها تتأدب (وإن رآها تتوانى ) أي : تتساهل (بحكم الكسل في شيء من الفضائل أو ورد من الأوراد فينبغي أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها ويلزمها فنونا ) أي : أنواعا (من الوظائف جبرا لما فات منه وتداركا لما فرط فهكذا كان يعمل عمال الله تعالى فقد ) روي أنه (عاقب عمر بن الخطاب ) رضي الله عنه (نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدق ) على الفقراء (بأرض كانت له قيمتها مائتا ألف درهم وكان ابن عمر ) رضي الله عنهما (إذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة ) قائما يصلي (و ) يروى أنه (أخر ليلة صلاة المغرب ) لشغل عرضه (حتى [ ص: 120 ] طلع كوكبان فأعتق رقبتين وفات ) الحارث بن عبد الله (بن أبي ربيعة ) بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي المكي أمير الكوفة المعروف بالقباع، روى له أبو داود في المراسيل والنسائي مات قبل السبعين (ركعتا الفجر فأعتق رقبة وكان بعضهم يجعل على نفسه صوم سنة أو الحج ماشيا ) على رجليه (أو التصدق بجميع ماله كل ذلك مرابطة للنفس ومؤاخذة لها بما فيه نجاتها ) من الهلاك الأبدي .

(فإن قلت إن كانت نفسي لا تطاوعني على المجاهدة ) والرياضات الشاقة (والمواظبة على الأوراد فما سبيل معالجتها فأقول سبيلك في ذلك أن تسمها ما ورد في الأخبار من فضل المجتهدين ) هكذا في سائر نسخ الكتاب وقد وقع للحافظ العراقي تصحيف في هذه الكلمة فقال من فضل المجتهدين بتقديم الفوقية ثم أورد من حديث عبد الله بن عمر ومن قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين الحديث رواه أبو داود ومن حديث أبي هريرة رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته رواه النسائي وابن ماجه ومن حديث بلال عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم رواه الترمذي ثم قال وقد تقدم في الأوراد مع غيره من الأخبار في ذلك . اهـ . وأنت خبير بأنه يخالف السياق والسباق وإنما مراد المصنف أخبار فضل المجتهدين في العبادة لا المتهجدين والمراد من أخبارهم حكاياتهم وسيرهم فتأمل ذلك (ومن أنفع أسباب العلاج أن تطلب صحبة عبد من عباد الله كامل ) الظاهر معمور الباطن (مجتهد في العبادة ) غير متساهل فيها (فتلاحظ أقواله ) وتلاحظ أحواله (وتقتدي به ) فيهما وهذا المعنى هو الأصل الأصيل في سلوك طريق السادة النقشبندية قدس الله أسرارهم وهم يعتمدون عليه كثيرا ويأمرون المريد بذلك (وكان بعضهم يقول كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى أحوال ) أبي عبد الله (محمد بن واسع ) البصري العابد (وإلى اجتهاده فعملت على ذلك أسبوعا ) قال أبو نعيم في الحلية حدثنا أحمد بن محمد بن سنان حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا سيار حدثنا جعفر بن سليمان قال كنت إذا وجدت من قلبي قسوة فنظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى . اهـ .

وقد ذكر أبو نعيم من اجتهاد محمد بن واسع في العبادة شيئا كثيرا راجعه في ترجمته (إلا أن هذا العلاج قد تعذر ) الآن (إذ قد فقد في هذا الزمان ) وهو رأس الخمسمائة من الهجرة (من يجتهد في العبادة اجتهاد الأولين ) لنقص الهمم وتأخر الزمان (فينبغي أن يعدل من المشاهدة ) والمصاحبة (إلى السماع ) بالتيقظ والتذكر (فلا شيء أنفع من سماع أحوالهم ومطالعة أخبارهم ) أي : سيرهم وحكاياتهم (وما كانوا فيه من الجهد الجهيد وقد انقضى تعبهم وبقي ثوابهم ونعيمهم أبد الآباد لا ينقطع فما أعظم ملكهم وما أشد حسرة من لا يقتدي بهم فيمتع نفسه أياما قلائل بشهوات مكدرة ثم يأتيه الموت ويحال بينه وبين كل ما يشتهيه أبد الآباد نعوذ بالله من ذلك) .




الخدمات العلمية