الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فالصادق إذن في جميع هذه المقامات عزيز .

ثم درجات الصدق لا نهاية لها ، وقد يكون للعبد صدق في بعض الأمور دون بعض فإن كان صادقا في الجميع فهو الصديق حقا .

قال سعد بن معاذ ثلاثة أنا فيهن قوي وفيما سواهن ضعيف ما صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسي حتى أفرغ منها ولا ، شيعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة وما هو مقول لها حتى يفرغ من دفنها وما ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قولا إلا علمت أنه حق ، فقال ابن المسيب ما ظننت أن هذه الخصال تجتمع إلا في النبي .

صلى الله عليه وسلم فهذا صدق في هذه الأمور ، وكم قوم من جلة الصحابة قد أدوا الصلاة ، واتبعوا الجنائز ، ولم يبلغوا هذا المبلغ ، فهذه هي درجات الصدق ومعانيه .

والكلمات المأثورة عن المشايخ في حقيقة الصدق في الأغلب لا تتعرض إلا لآحاد هذه المعاني نعم ، قد قال أبو بكر الوراق الصدق ثلاثة : صدق التوحيد ، وصدق الطاعة ، وصدق المعرفة .

فصدق التوحيد لعامة المؤمنين ، قال الله تعالى : والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون وصدق الطاعة لأهل العلم .

والورع ، وصدق المعرفة لأهل الولاية الذين هم أوتاد الأرض ، وكل هذا يدور على ما ذكرناه في الصدق السادس ، ولكنه ذكر أقسام ما فيه الصدق ، وهو أيضا غير محيط بجميع الأقسام . وقال جعفر الصادق الصدق هو المجاهدة ، وأن لا تختار على الله غيره ، كما لم يختر عليك غيرك ، فقال تعالى : هو اجتباكم وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : إني إذا أحببت عبدا ابتليته ببلايا لا تقوم لها الجبال ؛ لأنظر كيف صدقه ، فإن وجدته صابرا اتخذته وليا وحبيبا ، وإن وجدته جزوعا يشكوني إلى خلقي خذلته ولا أبالي فإذن من علامات الصدق كتمان المصائب والطاعات جميعا ، وكراهة اطلاع الخلق عليها .

التالي السابق


(فالصادق إذا في جميع المقامات عزيز، ثم درجات الصدق لا نهاية لها، وقد يكون للعبد صدق في بعض الأمور دون بعض ) وهو على خطر، وفي مشيئة الله تعالى .

(فإن كان صادقا في الجميع فهو الصديق حقا ) كما ينبئ عنه لفظه .

(قال سعد بن معاذ ) بن النعمان الأوسي -رضي الله عنه-: (ثلاثة أنا فيهن قوي وفيما سواهن ضعيف ) الأول: (ما صليت صلاة منذ أسلمت ) وهو قديم الإسلام (فحدثت نفسي حتى أفرغ منها، و ) الثاني: (ما شيعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة وما هو معقول لها حتى نفرغ من دفنها، و ) الثالث (ما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول قولا إلا علمت أنه حق، فقال ) سعيد (بن المسيب ) راويه: (ما ظننت أن هذه الخصال تجتمع ) بكمالها (إلا في النبي صلى الله عليه وسلم ) .

وروى يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عائشة قالت: "كان في بني الأشهل ثلاثة لم يكن أحد أفضل منهم: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر.

(فهذا صدق [ ص: 84 ] في هذه الأمور، وكم قوم من جلة الصحابة قد أدوا الصلاة، واتبعوا الجنائز، ولم يبلغوا هذا المبلغ، فهذه هي درجات الصدق ومعانيه، والكلمات المأثورة عن المشايخ في حقيقة الصدق في الأغلب لا تتعرض إلا لآحاد هذه المعاني ) الستة .

(نعم، قد قال أبو بكر ) محمد بن عمر (الوراق ) الترمذي ثم البلخي، صحب ابن خضرويه، وصنف في الرياضات والمعاملات، له ذكر في الرسالة في آخر باب الحياء: (الصدق ثلاثة: صدق التوحيد، وصدق الطاعة، وصدق المعرفة، فصدق التوحيد لعامة المؤمنين، قال الله تعالى: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون وصدق الطاعة لأهل العلم والورع، وصدق المعرفة لأهل الولاية ) الكبرى (الذين هم أوتاد الأرض، وكل هذا يدور على ما ذكرناه في الصدق السادس، ولكنه ذكر أقسام ما فيه الصدق، وهو أيضا غير محيط بجميع الأقسام .

وقال جعفر الصادق ) -رحمه الله تعالى-: (الصدق هو المجاهدة، وأن لا تختار على الله غيره، كما لم يختر عليك غيرك، فقال تعالى: هو اجتباكم ) .

وقال غيره: الصدق القول بالحق في مواطن الهلكة، وقيل: هو موافقة السر النطق .

وقال القناد: الصدق منع الحرام من الشدق .

وقال أبو سعيد القرشي: الصادق الذي يتهيأ له أن يموت ولا يستحيي من سره لو كشف، قال الله تعالى: فتمنوا الموت إن كنتم صادقين .

وقال عبد الواحد بن زيد: الصدق الوفاء لله بالعمل .

وقال جعفر الخواص: سمعت الجنيد يقول: حقيقة الصدق أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب .

وسئل فتح الموصلي عن الصدق، فأدخل يده في كير الحداد، فأخرج الحديدة المحماة، ووضعها على كفه، وقال: هذا هو الصدق .

وقال أبو علي الدقاق: الصدق أن يكون كما ترى من نفسك، أو ترى من نفسك كما يكون، وهذه الأقوال كلها نقلها القشيري في الرسالة .

(وقد أوحى الله تعالى إلى موسى -عليه السلام-: إني إذا أحببت عبدا ابتليته ببلايا لا تقوم لها الجبال؛ لأنظر كيف صدقه، فإن وجدته صابرا اتخذته وليا وحبيبا، وإن وجدته جزوعا يشكوني إلى خلقي خذلته ولا أبالي .

فإذا: من علامات الصدق كتمان المصائب والطاعات جميعا، وكراهة اطلاع الخلق عليها ) .

قال القشيري في الرسالة: سئل الحارث المحاسبي عن علامات الصدق فقال: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه، ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله، ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من عمله، فإن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم، وليس من أخلاق الصديقين. اهـ .

قال صاحب القاموس: هذا إذا لم يكن له مراد بذلك سوى عمارة حاله عندهم، وسكناه في قلوبهم؛ تعظيما له. وأما لو كان مراده بذلك تنفيذا لأمر الله، ونشرا لدينه ودعوة إلى الله، فهذا الصادق حقا، والله يعلم سرائر القلوب ومقاصدها. اهـ .

وقال القشيري : ثلاث لا يخطئن الصادق: الحلاوة والهيبة والملاحة .



ولنختم هذا الباب بما يتعلق بالصدق، ثم نتبعه بحكاية الصادقين، قال صاحب القاموس في البصائر: الصديق الكثير الصدق، وقيل: من لم يصدر منه الكذب أصلا، وقيل: من لا يتأتى منه الكذب لتعوده الصدق، وقيل: من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله، والصديقون قوم دون الأنبياء في الفضيلة، ولكن درجتهم ثاني درجة النبوة .

وفي الجملة: منزلة الصدق من أعظم منازل القوم، الذي نشأ منه جميع منازل السالكين، وهو الطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أزاله وصرعه، فهو روح الأعمال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال .

وقد قسم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق، فقال: ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم .

والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما يحارب الآخر، وأخبر سبحانه أنه في القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، فقال تعالى: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم وقال: والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون .

[ ص: 85 ] فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله، فالصدق في الأقوال استواء اللسان على الأقوال، كاستواء السنبلة على ساقها، والصدق في الأعمال استواء الأفعال على الأمر والمتابعة، كاستواء الرأس على الجسد، والصدق في الأحوال استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوسع، وبذل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صديقية؛ ولذلك كان لأبي بكر -رضي الله عنه- ذروة الصديقية حتى سمي الصديق على الإطلاق، وهو أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسل .

وقد أمر سبحانه رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق، فقال: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا .

وأخبر عن خليله إبراهيم -عليه السلام- أنه سأل أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، وبشر عباده أن لهم قدم صدق عند ربهم، وقال: إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق .

فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، ومقعد الصدق، وقدم الصدق .

وحقيقة الصدق في هذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله من الأعمال والأقوال، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة .

فمدخل الصدق ومخرج الصدق أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا لله تعالى، وفي مرضاته، متصلا بالظفر ببغيته، وحصول المطلوب، ضد مدخل الكذب ومخرجه، الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها، كمخرج أعدائه يوم بدر، ومخرج الصدق كمخرجه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في ذلك الغزو، وكذلك مدخل المدينة كان مدخل صدق بالله ولله، وابتغاء مرضاة الله، فاتصل به التأكيد والظفر والنصر، وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب، فإنه لم يكن بالله ولا لله، بل محادا لله ورسوله، فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار، وكذلك مدخل من دخل من اليهود والمحاربين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حصن بني قريظة، فإنه لما كان مدخل كذب أصابهم منه ما أصابهم .

وكل مدخل ومخرج كان بالله ولله وصاحبه ضامن على الله، فهو مدخل صدق ومخرج صدق؛ ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه بخروجه -صلى الله عليه وسلم- من مكة ودخوله المدينة، ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل؛ فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه -صلى الله عليه وسلم- وإلا فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارج صدق؛ إذ هي بالله ولله وبأمره ولابتغاء مرضاته .

وما خرج أحد من بيته، أو دخل سوقا، أو مدخلا آخر، إلا بصدق أو كذب، فمدخل كل أحد ومخرجه لا يعدو الصدق والكذب، والله المستعان .

وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن من سائر الأمم بالصدق، ولما كان اللسان هو محله عبر عنه به؛ فإن اللسان يراد به ثلاث معان: هذا، واللغة، والجارحة نفسها .

وأما قدم الصدق: ففسر بالجنة، وفسر بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وفسر بالأعمال الصالحة، وحقيقة القدم ما قدموه ويقدمون عليه يوم القيامة، وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ويقدمون على الجنة .

ومن فسر بالأعمال وبالنبي -صلى الله عليه وسلم- فلأنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم .

وأما مقعد صدق: فهو الجنة عند ربهم، ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره، وأنه حق، ودوامه ونفعه وكمال عائدته، فإنه متصل بالحق سبحانه، كان به وله، فهو صدق غير كذب، وحق غير باطل، ودائم غير زائل، ونافع غير ضار، وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل، ولا مدخل .

ومن علامات الصدق طمأنينة القلب إليه، ومن علامات الكذب حصول الريبة، كما في الترمذي مرفوعا: "الصدق طمأنينة والكذب ريبة" وفي الصحيحين: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا" الحديث .

فجعل الصدق مفتاح الصديقية ومبدأها، وهي غايته، فلا ينال درجتها كاذب البتة، لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله، ولا سيما كاذب على الله في أسمائه وصفاته بنفي ما أثبته لنفسه أو بإثبات ما نفاه عن نفسه، فليس في هؤلاء صديق أبدا، وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه [ ص: 86 ] بتحليل ما حرمه، وتحريم ما أحله، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما أسقطه، وكراهة ما أحبه، واستحباب ما لم يحبه، كل ذلك مناف للصديقية .

وكذلك الكذب معه في الأعمال بالتحلي بحلية الصالحين الصادقين المخلصين الزاهدين المتوكلين، وليس منهم، وكانت الصديقية كمال الإخلاص، والانقياد والمتابعة في كل الأمور، حتى إن صدق المتبايعين يحل البركة في بيعهما، فكذبهما يمحق بركة بيعهما كما في الصحيحين: "البائعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما". اهـ .

وأما حكايات الصادقين فقال القشيري في الرسالة: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: كان أبو علي الثقفي يتكلم يوما فقال له عبد الله بن المبارك: يا أبا علي استعد للموت فلا بد منه، فقال أبو علي: وأنت يا عبد الله استعد للموت فإنه لا بد منه، فتوسد عبد الله ذراعه، ووضع رأسه، وقال: قدمت، فانقطع أبو علي؛ لأنه لم يمكنه أن يقابله بما فعل؛ لأنه كان لأبي علي علاقات، وكان عبد الله مجردا لا شغل له. اهـ .

وهذا يدل على أن السالك لا يكون صادقا إلا بقطع الأسباب المشغلة عنه، وما لم يتجرد لم يصدق في حاله .

ثم قال القشيري : سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: كان أبو العباس الدينوري يتكلم، فصاحت عجوز في المجلس صيحة، فقال أبو العباس: موتي، فقامت وخطت خطوات، ثم التفتت إليه، وقالت: قدمت، ووقعت ميتة .

قلت: وكأنه كان يتكلم في مقام المحبة، فلما غلب عليه الوجد وصاحت ظن أنها غير صادقة، فدعت الله بأن لا يفضحها، فأجيب لها، وعلم من حالها أنها كانت مغلوبة، وهذا من علامات الصدق .

ثم قال: وقيل: نظر عبد الواحد بن زيد إلى غلام من أصحابه، وقد نحل بدنه، فقال: يا غلام تديم الصوم؟ فقال: لا، ولا أديم الإفطار، فقال: تديم القيام بالليل، فقال: لا، ولا أديم النوم، فقال: فما الذي أنحلك؟ فقال: هوى دائم، وكتمان دائم عليه، فقال عبد الواحد: اسكت ما أجرأك! فقام الغلام، وخطى خطوتين، فقال: إلهي إن كنت صادقا فخذني، فخر ميتا .

قلت: وإنما أمره عبد الواحد بالسكوت؛ لأنه ظن أنه يدعي مقام الحب، وأنه كاذب في دعواه، وكان الغلام صادقا، فاستجاب دعاءه .

ومن هنا قال بعضهم: إذا لقيت فقيرا فالقه بالرفق، ولا تلقه بالعلم؛ فإنك إذا لقيته بالعلم ذاب كما يذوب الثلج، ثم قال: وحكي عن أبي عمران الزجاجي أنه قال: ماتت أمي فورثت دارا فبعتها بخمسين دينارا، وخرجت إلى الحج، فلما بلغت بابل استقبلني واحد من القناقنة، وقال: أيش معك؟ فقلت في نفسي: الصدق خير، ثم قلت: خمسون دينارا، فقال: ناولنيها، فناولته الصرة فعدها، فإذا هي خمسون، فقال لي: خذها، فلقد أخذني صدقك، ثم نزل عن الدابة فقال: اركبها، فقلت: لا أريد، فقال: لا بد وألح علي، فركبتها، فقال: وأنا على أثرك، فلما كان العام المستقبل لحق بي، ولازمني حتى مات .

قلت: آبل بالمد اسم موضع، والقناقنة جمع قنقن، هو الدليل الهادي والبصير بالماء في حفر القني، والذي وقع للرجل هو من بركات الصدق وآثاره في الدنيا قبل الأخرى .

ثم قال: وقيل: دخل إبراهيم بن دوحة مع إبراهيم بن شيبة البادية، فقال إبراهيم بن شيبة: اطرح ما معك من العلائق، قال: فطرحت كل شيء إلا دينارا، فقال: يا إبراهيم لا تشتغل سري، اطرح ما معك من العلائق، قال: فطرحت الدينار، قال: يا إبراهيم اطرح ما معك من العلائق، فذكرت أن معي شسوعا للنعل فطرحتها، فما احتجت في الطريق إلى شسع إلا وجدته بين يدي، فقال ابن شيبة: هكذا، من عامل الله بالصدق .

قلت: وطرحه للدينار ليس من باب إتلاف المال وإضاعته لغير سبب موجب، بل هو من باب تأديب النفس وزجرها لتنقطع عنها العلائق، وهذا غرض ديني لا يخفى .

وقال ابن أبي الدنيا في الصمت: حدثنا عمر بن بكير النحوي، أخبرنا عبد الرحمن الطائي، أخبرنا أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة قال: كان يقال: إن ربعي بن حراش لم يكذب كذبا قط، فأقبل ابناه من خراسان قد تأجلا، فجاء العريف إلى الحجاج فقال: أيها الأمير، إن الناس يزعمون أن ربعي بن حراش لم يكذب كذبة قط، وقد قدم ابناه من خراسان، وهما عاصيان، فقال الحجاج: علي به، فلما جاء قال: أيها الشيخ، قال: ما تشاء؟ قال: ما فعل ابناك؟ قال: المستعان الله، خلفتهما في البيت، قال: لا جرم والله لا أسوءك فيهما، هما لك .

ويروى أن رجلا مر بلقمان والناس عنده، فقال: ألست عبد بني فلان؟ قال: بلى، قال: الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟ قال: بلى، قال: ما الذي بلغ بك [ ص: 87 ] ما أرى؟ قال: صدق الحديث، وطول السكوت عما لا يعنيني .

رواه ابن أبي الدنيا في الصمت من طريق عمرو بن قيس الملائي.



(خاتمة ) من شرط الصديقية أن لا يعود لسانه اللعن، قال ابن أبي الدنيا : حدثنا بشار بن موسى، أخبرنا يزيد بن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن جده، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر الصديق لعن بعض رقيقه، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- يا أبا بكر، الصديقون ولعانون؟! قال: فأعتق أبو بكر يومئذ بعض رقيقه، وجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: والله لا أعود.

وبشار بن موسى هو الخفاف، عجلي بصري، نزل بغداد، قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقد تقدمت الإشارة إليه في آفات اللسان .

اللهم اجعلنا من المخلصين الصادقين، آمين، وبه تم كتاب النية والإخلاص والصدق، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

قال مؤلفه: وكان الفراغ منه في ضحوة نهار الاثنين لتسع بقين من محرم الحرام افتتاح سنة 1201 ختمت بحمد الله وعونه، والحمد لله رب العالمين .




الخدمات العلمية