الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وبالجملة : كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس ، ويميل إليه القلب ، قل أم كثر إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه ، وزال به إخلاصه .

والإنسان مرتبط في حظوظه ، منغمس في شهواته ، قلما ينفك فعل من أفعاله ، وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس .

فلذلك قيل : من سلم له من عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله نجا ؛ وذلك لعزة الإخلاص ، وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب بل الخالص : هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى .

وهذه الحظوظ إن كانت هي الباعثة وحدها فلا يخفى شدة الأمر على صاحبه فيها وإنما نظرنا فيما إذا كان القصد الأصلي هو التقرب وانضافت إليه هذه الأمور ، ثم هذه الشوائب إما أن تكون في رتبة الموافقة أو في رتبة المشاركة أو في رتبة المعاونة ، كما سبق في النية وبالجملة فإما أن يكون الباعث النفسي مثل الباعث الديني ، أو أقوى منه ، أو أضعف ، ولكل واحد حكم آخر كما سنذكره وإنما الإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها حتى يتجرد فيه قصد التقرب ، فلا يكون فيه باعث سواه .

وهذا لا يتصور إلا من محب لله ، مستهتر بالله ، مستغرق الهم بالآخرة ، بحيث لم يبق لحب الدنيا في قلبه قرار ، حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا ، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة فلا يشتهي الطعام لأنه طعام ، بل لأنه يقويه على عبادة الله تعالى ، ويتمنى أن لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل فلا يبقى في قلبه حظ من الفضول الزائدة على الضرورة ، ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده ؛ لأنه ضرورة دينه ، فلا يكون له هم إلا الله تعالى .

فمثل هذا الشخص لو أكل أو شرب أو قضى حاجته كان خالص العمل ، صحيح النية في جميع حركاته وسكناته ، فلو نام مثلا حتى يريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده كان نومه عبادة ، وكان له درجة المخلصين فيه ومن ليس كذلك فباب الإخلاص في الأعمال مسدود عليه إلا على الندور وكما أن من غلب عليه حب الله وحب الآخرة ، فاكتسبت حركاته الاعتيادية صفة همه ، وصارت إخلاصا ، فالذي يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة وبالجملة : غير الله ، فقد اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة ، فلا تسلم له عباداته من صوم وصلاة وغير ذلك ، إلا نادرا فإذن : علاج الإخلاص كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا ، والتجرد للآخرة ، بحيث يغلب ذلك على القلب فإذا ذاك يتيسر الإخلاص .

التالي السابق


(وبالجملة: كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قل أم كثر إذا تطرق إلى العمل تكدر به صفوه، وزال به إخلاصه، والإنسان مرتبط في حظوظه، منغمس في شهواته، قلما ينفك فعل من أفعاله، وعبادة من عباداته عن حظوظ وأغراض عاجلة من هذه الأجناس؛ فلذلك قيل: من سلم له من عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله تعالى نجا؛ وذلك لعزة الإخلاص، وعسر تنقية القلب عن هذه الشوائب ) لأن حقيقته: ما لا يكون للنفس فيه حظ بحال وهذا عزيز .

(بل الخالص: هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى ) ولم يشبه شيء من هذه الحظوظ (وهذه الحظوظ إن كانت هي الباعثة وحدها فلا تخفى شدة الأمر على صاحبه فيها ) وقد تقدم بيانه في ذم الرياء .

(وإنما نظرنا فيما إذا كان القصد الأصلي هو التقرب ) إلى الله تعالى (وانضافت إليه هذه الأمور، ثم ) إن قلت: إن (هذه الشوائب ) من الرياء والحظوظ تحبط مطلقا، فأقول: إذا اقترن بباعث الإخلاص باعث آخر فلا يخلو (إما أن يكون في رتبة الموافقة أو في رتبة المشاركة أو في رتبة المعاونة، كما سبق في بيان النية ) .

أما المشاركة: فالآيات والأخبار دالة على أنها محبطة، وقد اختلف العلماء في رتبة المعاونة، والذي مال إليه المصنف أنها تنقص من أصل الثواب بقدر ما خففت من العمل، ورد على رأي الإحباط من العلماء كما سيأتي تفصيله قريبا .

وأما الموافقة: فلا يجب التخلص منها؛ لما في ذلك من الحرج على العامة، ولكنها منقصة لكمال الإخلاص .

(وبالجملة فإما أن يكون الباعث النفسي مثل الباعث الديني، أو أقوى منه، أو أضعف، ولكل واحد حكم آخر كما سنذكره ) قريبا (وإنما ) الإخلاص في الحقيقة (تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها قليلها وكثيرها حتى يتجرد فيه قصد التقرب، فلا يكون فيه باعث سواه ) وهذا هو إخلاص العوام .

قال القشيري : سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عبد الرحمن المغربي يقول: الإخلاص ما لا يكون للنفس فيه حظ بحال، وهذا إخلاص العوام، وإخلاص الخواص: ما يجري عليهم لا بهم، فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها رؤية ولا بها أعداد. انتهى .

وكأنه يشير إلى كمال الإخلاص، ولا يقدر عليه إلا بعد استغراق الحب قلبه، فرجع جميع المباحات عنده كالأدوية، لا يتناول منها إلا لضرورة، ولأجل كمال الإخلاص بأصله شق على الناس علمه وعمله، فصار حديث الإخلاص عند المتفقهة كالمستغرب، وهو شرط في صحة أعمالهم، وقد تقدم ذكر الشوائب المنقصة لأصل الإخلاص، فلنذكر الشوائب المنقصة لكماله .

والكمال هو أن لا يلتفت في سائر أحواله إلا إلى الله تعالى عبادة أو عادة، وأن يكون وجود الناس عنده كعدمهم؛ لأن وجودهم مجازي لا حقيقة؛ إذ لا قوام لهم بنفوسهم، إنما الموجود الثابت الحقيقي هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، الذي قامت ذاته بذاته، وكل شيء سواه قائم به، ومستند إلى قدرته، فإن عجز عن هذا المقام فليكن وجودهم عنده كوجود البهائم، بمعنى أنها لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، ولا عطاء ولا منعا، ولا مدحا ولا ذما، فمتى ما فرق في مشاهدة الخلق بين أن يشهده رئيس أو بهيمة في عبادة من عباداته فلا يخلو إخلاصه عن نقصان بحسب قوة النظر في وجهة قلبه عن الله تعالى أو ضعفها؛ ولهذا كان المخلصون على خطر عظيم، وكانت [ ص: 52 ] أعمالهم أعمال المقربين، فمن رزق هذه الحالة فنقصانها بالنظر إليها والاعتماد عليها، هذا ما يتعلق بكمال الإخلاص .

وبالجملة فالباعث على الفعل إما أن يكون روحانيا فقط، وهو الإخلاص، أو شيطانيا فقط وهو الرياء، أو مركبا وهو ثلاثة أقسام؛ لأنه لا يخلو: إما أن يكونا سواء، أو الروحاني أقوى أو الشيطاني أقوى .

فإذا كان الباعث روحانيا فقط (وهذا لا يتصور إلا من محب لله، مستهتر بالله، مستغرق الهم بالآخرة، بحيث لم يبق لحب الدنيا في قلبه قرار، حتى لا يحب الأكل والشرب أيضا، بل تكون رغبته فيه كرغبته في قضاء الحاجة من حيث إنه ضرورة الجبلة ) ولا بد منه (فلا يشتهي الطعام لأنه طعام، بل لأنه يقويه على عبادة الله، ويتمنى أنه لو كفي شر الجوع حتى لا يحتاج إلى الأكل فلا يبقى في قلبه حظ من الفضول الزائدة على الضرورة، ويكون قدر الضرورة مطلوبا عنده؛ لأنه ضرورة دينه، فلا يكون له هم إلا الله تعالى، فمثل هذا الشخص لو أكل وشرب أو قضى حاجته كان خالص العمل، صحيح النية في جميع حركاته وسكناته، فلو نام مثلا حتى يريح نفسه ليتقوى على العبادة بعده كان نومه عبادة، وكان له درجة المخلصين فيه ) .

وإذا كان الباعث شيطانيا فقط، ولا يتصور إلا من محب للنفس والدنيا، مستغرق الهم بها، حيث لم يبق لحب الله في قلبه مقر، فتكتسب أفعاله تلك الصفة، فلا يسلم له شيء من عبادته، وإليه أشار المصنف بقوله: (ومن ليس كذلك فباب الإخلاص في الأعمال مسدود عليه إلا على الندور ) أي: القلة .

(وكما أن من غلب عليه حب الله وحب الآخرة، فاكتسبت حركاته الاعتيادية صفة همه، وصارت إخلاصا، فالذي يغلب على نفسه الدنيا والعلو والرياسة ) وسائر الحظوظ (وبالجملة: غير الله، فقد اكتسبت جميع حركاته تلك الصفة، فلا تسلم له عباداته من صوم وصلاة وغير ذلك، إلا نادرا ) .

وإذا استوى الباعثان يتعارضان ويتناقضان، فيصير العمل لا له ولا عليه .

وأما من غلب أحد الطرفين فيه فينحط منه ما يساوي الآخر، وتبقى الزيادة موجبة أثرها اللائق بها، وسيأتي تحقيق ذلك في أواخر فصول الباب (فإذا: علاج الإخلاص كسر حظوظ النفس ) ودفعها (وقطع الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة، بحيث يغلب ذلك على القلب ) فلا يهمه إلا هو (فإذا ذلك يتيسر ) له (الإخلاص ) أي: كماله .




الخدمات العلمية