الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أن النية غير داخلة تحت الاختيار .

اعلم أن الجاهل يسمع ما ذكرناه من الوصية بتحسين النية وتكثيرها مع قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات " فيقول في نفسه عند تدريسه أو تجارته أو أكله نويت أن أدرس لله ، أو أتجر لله .

أو آكل لله ، ويظن أن ذلك نية وهيهات ! فذلك حديث نفس وحديث لسان وفكر ، أو انتقال من خاطر إلى خاطر والنية بمعزل من جميع ذلك . وإنما النية انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلا وإما آجلا .

والميل إذا لم يكن لا يمكن اختراعه واكتسابه بمجرد الإرادة ، بل ذلك كقول الشبعان : نويت أن أشتهي الطعام وأميل إليه ، أو قول الفارغ نويت أن أعشق فلانا وأحبه وأعظمه بقلبي ، فذلك محال .

بل لا طريق إلى اكتساب .

صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وتوجهه نحوه إلا باكتساب أسبابه ، وذلك مما قد يقدر عليه وقد لا يقدر عليه ، وإنما تنبعث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث الموافق للنفس الملائم لها ، وما لم يعتقد الإنسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه نحوه قصده .

وذلك مما لا يقدر على اعتقاده في كل حين ، وإذا اعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغا غير مصروف عنه بغرض شاغل أقوى منه ، وذلك لا يمكن في كل وقت ، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها تجتمع ويختلف ذلك بالأشخاص وبالأحوال وبالأعمال .

فإذا غلبت شهوة النكاح مثلا ولم يعتقد غرضا صحيحا في الولد دينا ولا دنيا لا يمكنه أن يواقع على نية الولد بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة ، فكيف ينوي الولد ؟ وإذا لم يغلب على قلبه أن إقامة سنة النكاح اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم فضلها لا يمكن أن ينوي بالنكاح اتباع السنة ، إلا أن يقول ذلك بلسانه وقلبه ، وهو حديث محض ليس بنية نعم ، طريق اكتساب هذه النية مثلا أن يقوي أولا إيمانه بالشرع ويقوي إيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد من ثقل المؤنة ، وطول التعب ، وغيره فإذا فعل ذلك ربما انبعث من قلبه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب ، فتحركه تلك الرغبة وتتحرك أعضاؤه لمباشرة العقد ، فإذا انتهضت القدرة المحركة للسان بقبول العقد طاعة لهذا الباعث الغالب على القلب كان ناويا ، فإن لم يكن كذلك فما يقدره في نفسه ويردده في قلبه من قصد الولد وسواس وهذيان .

ولهذا امتنع جماعة من السلف من جملة من الطاعات إذ لم تحضرهم النية وكانوا يقولون : ليس تحضرنا فيه نية حتى إن ابن سيرين لم يصل على جنازة الحسن البصري ، وقال : ليس تحضرني نية .

ونادى بعضهم امرأته وكان يسرح شعره أن هات المدرى فقالت : أجيء بالمرآة ، فسكت ساعة ، ثم قال : نعم ، فقيل له في ذلك فقال : كان لي في المدرى نية ولم تحضرني في المرآة نية ، فتوقفت حتى هيأها الله تعالى .

ومات حماد بن سليمان وكان أحد علماء أهل الكوفة فقيل للثوري ألا تشهد جنازته ؟ فقال : لو كان لي نية لفعلت وكان أحدهم إذا سئل عملا من أعمال البر يقول : إن رزقني الله تعالى نية فعلت .

وكان طاوس لا يحدث إلا بنية ، وكان يسأل أن يحدث فلا يحدث ، ولا يسأل فيبتدئ ، فقيل له في ذلك ، قال .

: أفتحبون أن أحدث بغير نية ، إذا حضرتني نية فعلت .

وحكي أن داود بن المحبر لما صنف كتاب العقل جاءه أحمد بن حنبل فطلبه منه فنظر فيه أحمد صفحا ورده فقال ما لك ؟ قال : فيه أسانيد ضعاف ، فقال له داود : أنا لم أخرجه على الأسانيد ، فانظر فيه بعين الخبر إنما نظرت فيه بعين العمل فانتفعت . قال أحمد : فرده علي حتى أنظر فيه بالعين التي نظرت فأخذه ومكث عنده طويلا ثم قال : جزاك الله خيرا ؛ فقد انتفعت به .

وقيل لطاوس ادع لنا فقال : حتى أجد له نية .

وقال بعضهم : أنا في طلب نية لعيادة رجل منذ شهر فما صحت لي بعد .

وقال عيسى بن كثير مشيت مع ميمون بن مهران فلما انتهى إلى باب داره انصرفت ، فقال ابنه ألا تعرض عليه العشاء ؟ قال : ليس من نيتي .

وهذا لأن النية تتبع النظر ، فإذا تغير النظر تغيرت النية . وكانوا لا يرون أن يعملوا عملا إلا بنية لعلمهم بأن النية روح العمل وأن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف ، وهو سبب مقت لا سبب قرب ، وعلموا أن النية ليست هي قول القائل بلسانه : نويت بل هو انبعاث القلب يجري مجرى الفتوح من الله تعالى فقد تتيسر في بعض الأوقات وقد تتعذر في بعضها نعم ، من كان الغالب على قلبه أمر الدين تيسر عليه في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات ، فإن قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير ، فينبعث إلى التفاصيل غالبا .

ومن مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه لم يتيسر له ذلك ، بل لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد وغايته أن يتذكر النار ويحذر نفسه عقابها ، أو نعيم الجنة ، ويرغب نفسه فيها ، فربما تنبعث له داعية ضعيفة ، فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته .

وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدنيا وهذه أعز النيات وأعلاها ، ويعز على بسيط الأرض من يفهمها فضلا عمن يتعاطاها .

التالي السابق


بيان أن النية غير داخلة تحت الاختيار

(اعلم) هداك الله تعالى (أن الجاهل) قد (يسمع ما ذكرناه من الوصية بتحسين النية وتكثيرها مع) سماع (قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات") فيحدث نفسه بذلك (فيقول في نفسه عند تدريسه أو تجارته أو أكله) مثلا: (نويت أن أدرس لله، أو أتجر لله، أو آكل لله، ويظن أن ذلك نية) وكذا في كل حركة وسكون من حركاته وسكناته .

(وهيهات! فذلك حديث نفس أو حديث لسان أو) حديث (فكر، أو انتقال من خاطر إلى خاطر) لا ثواب فيه (والنية بمعزل عن جميع ذلك. وإنما) حقيقة (النية انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ما ظهر لها أن فيه غرضها) أي: انصراف الداعية إلى الغرض المطلوب (إما عاجلا أو آجلا) وذلك لا يكون إلا بحسب الهمة وقوة الإيمان، وغلبة حب الله تعالى والآخرة .

(والميل إذا لم يكن لا يمكن اختراعه واكتسابه بمجرد الإرادة، بل ذلك كقول الشبعان: نويت) أن أشتهي (الطعام وأميل إليه، أو قول الفارغ) البال عن العشق (نويت أن أعشق فلانا وأحبه وأعظمه بقلبي، فذلك محال، بل لا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وتوجهه نحوه إلا باكتساب أسبابه، وذلك مما قد يقدر عليه وقد لا يقدر عليه، وإنما تنبعث النفس إلى الفعل إجابة للغرض الباعث الموافق للنفس الملائم لها، وما لم يعتقد الإنسان أن غرضه منوط بفعل من الأفعال فلا يتوجه نحوه قصده، وذلك مما لا يقدر على [ ص: 30 ] اعتقاده في كل حين، وإذا اعتقد فإنما يتوجه القلب إذا كان فارغا غير مصروف عنه بغرض شاغل أقوى منه، وذلك لا يمكن في كل وقت، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها تجتمع) فمن تكسب النية ولم يتكسبها بأسبابها فقد فوت حظه من الله تعالى .

(ويختلف ذلك بالأشخاص والأحوال وبالأعمال، فإذا غلبت شهوة النكاح مثلا) وأقلقه الشبق (ولم يعتقد غرضا صحيحا في الولد دينا ولا دنيا لا يمكنه أن يواقع) أي: يجامع (على نية الولد) أي: لا يتصور فيه وجود هذه النية أصلا، (بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة) فقط (إذ النية هي إجابة الباعث ولا باعث إلا الشهوة، فكيف ينوي الولد؟ وإذا لم يغلب على قلبه أن إقامة سنة النكاح اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم) حيث كان محبوبا إليه (يعظم فضله لا يمكن أن ينوي بالنكاح اتباع السنة، إلا أن يقول ذلك بلسانه وقلبه، وهو حديث محض ليس بنية) لفقدان حقيقتها .

(نعم، طريق اكتساب هذه النية مثلا أن يقوي أولا إيمانه بالشرع، أي: بالله واليوم الآخر، وما أعده) الله فيه من المثوبات والعقوبات المرتبة على الطاعة والمعصية (ويقوى إيمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير) سواد (أمة محمد صلى الله عليه وسلم) وانصرفت الدواعي المضادة لذلك (ويدفع عن نفسه جميع المنفرات عن الولد) وخطرات النكاح (من ثقل المؤنة، وطول التعب، وغيره) ويتذكر الفضائل الواردة في فضل النكاح لأجل الولد، وفضل توليته وتعليمه الخير .

(فإذا فعل ذلك ربما انبعث من قلبه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب، فتحركه تلك الرغبة وتتحرك أعضاؤه لمباشرة العقد، فإذا انتهضت القدرة المحركة للسان بقبول العقد طاعة لهذا الباعث الغالب على القلب كان ناويا، فإن لم يكن كذلك فما يقدره في نفسه ويردده في قلبه من قصد الولد وسواس وهذيان) .

وكذا كل غرض شرعي ورد الشرع بفضله وله صوارف من جهة النفس والهوى، كمن دخل في صوم نفل، ثم أمره أبواه أو أحد من إخوانه بالإفطار، فأراد أن يفطر لإدخال السرور على قلب الوالدين، فما دامت شهوة الطعام تزاحمه لا تصح نيته، فإن أفطر لاعتقاده أنه عامل لله فعلامة صحتها تصغير اللقمة، وقصر اليد، وعدم الشره في الباطن، والقيام قبل الشبع .

وما من حالة من الحالات إلا ويتقدمها أسباب يكتسب بها، وتتأخر عنها علامات يعرف بها صحتها، فليطلب علم كل حال من موضعه، وقد ذكرنا ما يحسم خواطر النفس والهوى في كتاب الصبر والخوف والرجاء، فاجمع بين ما ذكرناه وبين ذكر الفضيلة المرغوب فيها فعند ذلك تحصل النية بهذا الطريق، فافهم ذلك إن كنت من أهله، وإلا فدع عنك الدعوى لمقامات الرجال، والزم الذل والتواضع لهم والمحبة؛ عسى ببركتهم تحشر معهم .

(ولذا امتنع جماعة من السلف من جملة من الطاعات إذا لم تحضرهم النية كانوا) يتعللون، و (يقولون: ليس تحضرنا فيه نية) وهم معذورون إذا لم يقدروا على كسبها (حتى) روي (أن ابن سيرين) وهو محمد بن سيرين الأنصاري أبو بكر بن أبي عمرة البصري، وأبوه سيرين مولى أنس بن مالك، إمام، ثقة مأمون، وإخوته تابعيون ثقات، ولد لسنتين من خلافة عثمان (لم يصل على جنازة الحسن البصري، وقال: ليس تحضرني نية) .

ولفظ القوت: مات الحسن فلم يحضر ابن سيرين جنازته، فسئل عن ذلك، فقال: لم تكن لي نية اهـ .

قال حماد بن زيد: مات الحسن في أول يوم من رجب سنة عشر ومائة، ومات ابن سيرين لتسع مضين من شوال في السنة المذكورة. وقال ابن حبان : مات ابن سيرين بعد الحسن بمائة يوم، وهو ابن سبع وسبعين سنة .

(ونادى بعضهم امرأته وكان) فوق سطح (يسرح شعره أن هات المدرى) ليفرق به شعره (فقالت: أجيء بالمرآة، فسكت ساعة، ثم قال: نعم، فقيل له في ذلك) أي: قال له من سمعه: لأي شيء سكت وتوقفت عن المرآة؟ (فقال: كان لي في) قولي: هات (المدرى نية، و) لما قالت: أجيء بالمرآة (لم تحضرني في المرآة نية، فتوقفت حتى هيأها الله تعالى) فقلت: نعم جيئي بها، نقله صاحب [ ص: 31 ] القوت .

(ومات) أبو إسماعيل (حماد بن أبي سليمان) الأشعري مولاهم، واسم أبي سليمان مسلم، (وكان أحد علماء الكوفة) فقيه صدوق، روى له البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، والأربعة، مات سنة عشرين أو قبلها (فقيل للثوري) سفيان: (ألا تشهد جنازته؟ فقال: لو كان لي نية لفعلت) نقله صاحب القوت .

(وكان أحدهم إذا سئل عملا من أعمال البر فقال: إن رزقني الله تعالى نية فعلت) ولفظ القوت: وكان العلماء إذا سئلوا عن عمل شيء أو سعي فيه يقولون: إن رزقنا الله نية فعلنا ذلك .

(وكان طاوس) بن كيسان اليماني رحمه الله تعالى (لا يحدث إلا بنية، وكان يسأل أن يحدث فلا يحدث، ولا يسأل فيبتدئ، فقيل له في ذلك، قال: أفتحبون أن أحدث بغير نية، إذا حضرتني نية فعلت .

وحكي أن) أبا سليمان (داود بن المحبر) بن حزم الثقفي البكراوي البصري، نزيل بغداد، متروك، قال ابن حبان : كان يضع الحديث على الثقات، مات سنة ست ومائتين، روى له أبو داود في كتاب القدر، وابن ماجه، وقد تقدم له ذكر وترجمة في آخر كتاب العلم (لما صنف كتاب العقل) وهو كتاب صغير الحجم، يذكر فيه فضائل العقل وما ورد فيها من الأخبار والآثار، وقد تقدم الكلام على هذا الكتاب أيضا في أواخر كتاب العلم، وقال الحافظ في التهذيب: إن أكثره موضوعات (جاءه) الإمام (أحمد بن حنبل) رحمه الله تعالى (فطلبه منه فنظر فيه) أحمد (صفحا) بالضم، أي: تصفحه كله (فرده) إليه (فقال) ابن المحبر: (ما لك؟ قال: فيه أسانيد ضعاف، فقال داود: أنا لم أخرجه على الأسانيد، فانظر فيه بعين الخبر) بالضم، أي: الاختبار (إنما نظرت فيه بعين العمل فانتفعت به. قال أحمد: فرده علي حتى أنظر فيه بالعين التي نظرت) بها، فرده عليه (فأخذه ومكث عنده) زمانا (طويلا) حتى اقتضاه إياه ابن المحبر فرده عليه (ثم قال: جزاك الله خيرا؛ فقد انتفعت به) منفعة بينة. نقله صاحب القوت .

فدل ذلك على أن النيات قد تختلف لاختلاف المقاصد، فيصير بعدا ما كان قربا بحسن النية، وما كان حسنا سيئا لسوء النية به .

(وقيل لطاوس) اليماني رحمه الله تعالى: (ادع لنا. قال: حتى أجد له نية) رواه ابن المبارك في الزهد من طريق داود بن شابور، قال: قلنا لطاوس: ادع بدعوات. فقال: لا أجد لذلك حسبة، أي: نية .

وروى ابن أبي شيبة من هذا الطريق قال: قال رجل لطاوس: ادع الله لنا. قال: ما أجد لقلبي حسبة فأدعو لك، أي: نية .

(وقال بعضهم: أنا في طلب نية لعيادة رجل منذ شهر فما صحت لي بعد) وهذا لصعوبة اكتساب النية؛ ولهذا قال يوسف بن أسباط: تخلص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد .

(وقال) ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت: حدثنا أبو كريب، حدثنا خلف بن حبان، حدثنا (عيسى بن كثير) الأسدي الرقي قال: (مشيت مع ميمون بن مهران) الجزري كاتب عمر بن عبد العزيز، إمام جليل ثقة، روى له الجماعة إلا البخاري، ففي الأدب المفرد، حتى أتى باب داره ومعه ابنه عمرو (فلما انتهى إلى باب داره انصرفت، فقال) له (ابنه) لما رأى انصرافي وابنه هذا هو عمرو بن ميمون بن مهران الجزري أبو عبد الله، وأبو عبد الرحمن، سبط سعيد بن جبير، ثقة فاضل، روى له الجماعة، مات سنة سبع وأربعين: يا أبت (ألا تعرض عليه العشاء؟ قال: ليس) ذلك (من نيتي؛ وهذا لأن النية تتبع النظر، فإذا تغير النظر تغيرت النية. وكانوا لا يرون أن يعملوا عملا إلا بنية) لأنهم كانوا يستحبون أن تكون لهم في كل شيء نية، حتى قال الفضيل بن عياض: لا نتحدث إلا بنية (لعلمهم بأن النية روح العمل) فلا يصح بقاؤه بدونها (وأن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف، وهو سبب مقت) أي: بعد عن الله تعالى (لا سبب قرب، وعلموا أن النية ليس هي قول القائل بقلبه: نويت) ولا قوله كذلك بلسانه (بل هو انبعاث القلب) للغرض المطلوب (يجري مجرى الفتوح من الله) تعالى (فقد تتيسر في بعض الأوقات وقد تتعذر في بعضها) إذ ليست داخلة تحت الاختيار .

(نعم، من كان الغالب على قلبه أمر الدين) والنظر إلى الآخرة (تيسر عليه في أكثر الأحوال) والأوقات (إحضار النية للخيرات، فإن قلبه مائل بالجملة [ ص: 32 ] إلى أصل الخير، فينبعث) لذلك (إلى التفاصيل غالبا، ومن مال قلبه إلى الدنيا وغلبت عليه) وقصر نظره عليها (لم يتيسر له ذلك، بل لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد) لاشتغال باطنه بأمور الدنيا، (وغايته أن يتذكر النار ويحذر نفسه عقابها، أو) يتذكر (نعيم الجنة، ويرغب نفسه فيها، فربما تنبعث له داعية ضعيفة لا مسكة لها، فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته) وبقدر خوفه وتحذيره .

(وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية) وإعطاء مقام الربوبية ما يستحقه (فلا يتيسر للراغب في الدنيا) لأنه عنه بمعزل (وهذه أعز النيات وأعلاها، ويعز من يفهمها فضلا عمن يتعاطاها) يعني: الطاعة لامتثال أمر الله حياء منه وتعظيما لجلاله وكبريائه وكماله في ذاته وصفاته وجميع أفعاله، وأنه المستحق لذلك بصفات ألوهيته على عباده .




الخدمات العلمية