الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما الآثار فقد قال عمر رضي الله عنه من حدث حديثا فعمل به فله مثل أجر من عمل ذلك العمل .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر .

وقال بعض العلماء : العالم يدخل فيما بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل .

وروي أن سفيان الثوري رحمه الله قدم عسقلان فمكث لا يسأله إنسان فقال : اكروا لي لأخرج من هذا البلد ؛ هذا بلد يموت فيه العلم .

وإنما قال ذلك حرصا على فضيلة التعليم ، واستبقاء العلم به وقال عطاء رضي الله عنه دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ؟ قال : ليس أحد يسألني عن شيء وقال بعضهم : العلماء سرج الأزمنة ، كل واحد مصباح زمانه ، يستضيء به أهل عصره .

التالي السابق


(الآثار) ذكر فيه من قول عمر وابن عباس رضي الله عنهم، ومن قول عطاء والحسن وعكرمة، وهؤلاء من التابعين، ثم من قول يحيى بن معاذ، وبعض الحكماء، وأورد فيه قول معاذ بن جبل موقوفا عليه، وقد روي مرفوعا أيضا، كما سيأتي بيانه .

(قال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه-: (من حدث بحديث) أي: بما فيه من الأحكام الشرعية (فعمل به) امتثالا للأمر، وتشوفا لحصول الأجر (فله) أي للمحدث (مثل أجر ذلك العمل) وشاهده حديث بلال بن الحارث المتقدم قريبا .

(وقال ابن عباس) رضي الله عنهما: (معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في البحر) وهذا قد مر في أثناء حديث أبي أمامة فيما رواه الترمذي "إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير" وفي حديث أبي الدرداء: "وصلت عليه ملائكة السماء، وحيتان البحر" ويروى أيضا: "إن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض وحتى الحيتان في الماء" وذلك لأنه لما كان معلم الخير سببا في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع الهلكات، وكان سعيه مقصورا على هذا، وكانت نجاة العباد في يديه جوزي من جنس عمله، وجعل من في السماوات والأرض ساعيا في نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم له .

وقد قيل: إن قوله: "كل شيء" عام في الحيوانات، ناطقها وبهيمها، طيرها وغيره، ويؤكده قوله: "حتى الحوت في البحر" والسر فيه أن العالم أشفق الناس على الحيوان، وأقومهم ببيان ما خلق له، فالعالم معرف لذلك، فاستحق أن تستغفر له البهائم .

وذكر الأجهوري في شرح مختصر البخاري ما نصه: إنما خص الحوت بالذكر لكونه لا لسان له، وما لا لسان له ربما يتوهم عدم استغفارهم لمعلم الخير، بخلاف غيره من الحيوان، فإنه وإن صغر له لسان. اهـ .

(وقال بعض العلماء: العالم يدخل بين الله وبين خلقه) أي هو الواسطة في وصول الخلق وإرشادهم ودلالتهم على الحق (فلينظر كيف يدخل) أي: فعليه بإمحاض النية واستعمال الخشية؛ ليكون تعليمه على طبق المعرفة من غير كتمان ولا بخس، ونحو ذلك، أو لينظر كيف تكون منزلته عند الله، وليشكر على هذه النعمة التي أوتيها من بين العباد؛ إذ صار من خلفاء الأنبياء، ووارث مقامهم للخاص والعام .

(وقد روي أن سفيان) بن سعيد (الثوري) ستأتي ترجمته فيما بعد (قدم عسقلان) وهي مدينة من أعمال فلسطين على البحر، كانوا يرابطون بها، وهذا قد أخرجه ابن الجوزي في ترجمته من رواية داود بن الجراح، قال: قدم الثوري عسقلان (فمكث) ثلاثا (لا يسأله إنسان) عن شيء (فقال: اكتروا لي) ونص ابن الجوزي: اكتر لي، خطاب لداود بن الجراح (لأخرج من هذا البلد؛ هذا بلد يموت فيه العلم) أي لقلة سائليه عنه (وإنما قال ذلك حرصا على فضيلة التعليم، واستبقاء للعلم به) فإن مذاكرة العلم ومساءلته حياة له وإبقاء.

ويروى عن حمزة قال: كان سفيان ربما حدث بعسقلان، فربما إذا حدث الحديث قال للرجل: هذا خير لك من ولايتك صور وعسقلان .

(وقال عطاء) هو عطاء بن أبي رباح: (دخلت على) أبي محمد (سعيد بن المسيب) بن حزن المخزومي القرشي أحد الأعلام، وسيد التابعين، ثقة، حجة، رفيع الذكر، روى عن عمر وعثمان وسعد، وعنه الزهري وقتادة ويحيى بن سعيد، توفي سنة أربع وتسعين عن ست وسبعين (وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال:) يبكيني أنه (ليس أحد يسألني عن شيء) فحزنه على فوات فضيلة التعليم والإرشاد، ولولا خطر مقامه وعظيم منزلته لما بكى على فواته .

(وقال بعضهم: [ ص: 119 ] العلماء سرج الأزمنة، كل واحد منهم مصباح زمانه، يستضيء به أهل عصره) السرج بضمتين جمع سراج، هو والمصباح شيء واحد، والأزمنة جمع زمان، هو والعصر شيء واحد، قال صاحب المصباح: السراج بالكسر المصباح، وجمعه سرج، ككتاب وكتب، والمسرجة بالفتح التي فيها الفتيلة والدهن، وبالكسر التي يوضع فيها المسرجة، والجمع مسارج، وأسرج السراج أوقد، ثم قال: والمصباح معروف، والجمع مصابيح، ثم قال: والزمان مدة قابلة للقسمة؛ ولهذا يطلق على الوقت القليل والكثير، والجمع أزمنة، والعصر الدهر والجمع عصور وأعصر، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن مغايرة التعبير مع اتحاد المعنى تفنن .

وهذا الذي ذكره عن البعض قد جاء مصداقه في الحديث الذي أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أنس، رفعه، بسند فيه القاسم بن إبراهيم الملطي، قال الدارقطني: كذاب: "اتبعوا العلماء فإنهم سرج الدنيا ومصابيح الآخرة" والحديث وإن كان أورده ابن الجوزي في الموضوعات وجزم به السيوطي وغيره، فالمعنى صحيح، أي: يستضاء بهم من ظلمات الجهل، كما ينجلي ظلام الليل بالسراج المنير بالليل، ويهتدى به فيه، فمن اقتدى بهم اهتدى بنورهم، وشبه العالم بالسراج؛ لأنه تقتبس منه الأنوار بسهولة، وتبقى فروعه بعده، وكذا العالم؛ ولأن البيت إذا كان فيه سراج لم يتجاسر اللص على دخوله؛ مخافة أن يفتضح، وكذا العلماء إذا كانوا بين الناس اهتدوا بهم إلى طلب الحق، وإزاحة ظلمة الجهل والبدعة؛ ولأنه إذا كان في البيت سراج موضوع في كوة مسدودة بزجاج أضاء داخل البيت وخارجه، وكذا سراج العلم يضيء في القلب وخارج القلب حتى يشرق نوره على الأذنين والعينين واللسان، فتظهر فنون الطاعات من هذه الأعضاء، ولأن البيت الذي فيه السراج صاحبه متأنس مسرور، فإذا طفئ استوحش، فكذلك العلماء ما داموا في الناس فهم مستأنسون مسرورون، فإذا ماتوا صار الناس في غم وحزن .

فإن قلت: ما الحكمة في التشبيه بخصوص السراج؟ وما المناسبة التامة بينهما؟

قلت: المصباح تضره الرياح، والعلم يضره الوسواس والشبهات، والسراج لا يبقى بغير دهن والعلم لا يبقى بغير توفيق، ولا بد للسراج من حافظ يتعهده، ولا بد لمصباح العلم من متعهد، وهو فضل الله وهدايته؛ ولأن السراج يحتاج إلى سبعة أشياء: زناد وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن، والعبد إذا طلب إيقاد سراج العلم لا بد من قدح زناد الفكر على حجر التضرع، وإحراق النفس بمنعها من شهواتها، وكبريت الإنابة، ومسرجة الصبر، وفتيلة الشكر، ودهن الرضا .

وقد ورد أيضا تشبيه العلماء بالنجوم والكواكب وبالقمر، تقدم ذلك في حديث أبي الدرداء الطويل، فلا يرد: لم لم يشبههم بالقمرين والنجوم مع أنها أنور وأرفع في المشارق والمغارب؟!




الخدمات العلمية