الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
اعلم أن الأعمال وإن انقسمت أقساما كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه فهي ثلاثة أقسام: طاعات ومعاص ومباحات القسم الأول : المعاصي ، وهي لا تتغير عن موضعها بالنية فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله عليه السلام : " إنما الأعمال بالنيات " فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية ، كالذي يغتاب إنسانا مراعاة لقلب .

غيره أو يطعم فقيرا من مال غيره أو يبني مدرسة أو مسجدا أو رباطا بمال حرام وقصده الخير فهذا كله جهل ، والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلما وعدوانا ومعصية ، بل قصده الخير بالشر على خلاف مقتضى الشرع شر آخر فإن عرفه فهو معاند للشرع ، وإن جهله فهو عاص بجهله ؛ إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم والخيرات إنما يعرف كونها خيرات للشرع ، فكيف يمكن أن يكون الشر خيرا هيهات ! بل المروج لذلك على القلب خفي الشهوة ، وباطن الهوى ، فإن القلب إذا كان مائلا إلى طلب الجاه واستمالة قلوب الناس وسائر حظوظ النفس توسل الشيطان به إلى التلبيس على الجاهل ؛ ولذلك قال سهل رحمه الله تعالى ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل . قيل : يا أبا محمد : هل تعرف شيئا أشد من الجهل ؟ قال : نعم الجهل بالجهل .

وهو كما قال ؛ لأن الجهل بالجهل يسد بالكلية باب التعلم ، فمن يظن بالكلية بنفسه أنه عالم فكيف يتعلم وكذلك أفضل ما أطيع الله تعالى به العلم ، ورأس العلم العلم بالعلم ، كما أن رأس الجهل الجهل بالجهل .

فإن من لا يعلم العلم النافع من العلم الضار اشتغل بما أكب الناس عليه من العلوم المزخرفة التي هي وسائلهم إلى الدنيا ، وذلك هو مادة الجهل ، ومنبع فساد العالم والمقصود أن من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام ولم يجد بعد مهلة للتعلم .

وقد قال الله سبحانه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يعذر الجاهل على الجهل ، ولا يحل للجاهل أن يسكت على جهله ، ولا للعالم أن يسكت على علمه .

ويقرب من تقرب السلاطين ببناء المساجد والمدارس بالمال الحرام تقرب العلماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار المشغولين بالفسق والفجور القاصرين ، هممهم على مماراة العلماء ، ومباراة السفهاء ، واستمالة وجوه الناس وجمع حطام الدنيا ، وأخذ أموال السلاطين واليتامى والمساكين ، فإن هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله تعالى ، وانتهض كل واحد منهم في بلدته نائبا عن الدجال يتكالب على الدنيا ويتبع الهوى ، ويتباعد عن التقوى ويستجرئ ، الناس بسبب مشاهدته على معاصي الله تعالى ، ثم قد ينتشر ذلك العلم إلى مثله وأمثاله ، ويتخذونه أيضا آلة ووسيلة في الشر واتباع الهوى ، ويتسلسل ذلك ، ووبال جميعه يرجع إلى المعلم الذي علمه العلم مع علمه بفساد نيته وقصده ومشاهدته أنواع المعاصي من أقواله وأفعاله ، وفي مطعمه وملبسه ومسكنه فيموت هذا العالم وتبقى آثار شره منتشرة في العالم ألف سنة مثلا ، وألفي سنة ، وطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه ثم العجب من جهله حيث يقول : إنما الأعمال بالنيات ، وقد قصدت بذلك نشر علم الدين ، فإن استعمله هو في الفساد فالمعصية منه لا مني ، وما قصدت به إلا أن يستعين به على الخير .

وإنما حب الرياسة والاستتباع والتفاخر بعلو العلم يحسن ذلك في قلبه والشيطان بواسطة حب الرياسة يلبس عليه . وليت شعري ما جوابه عمن وهب سيفا من قاطع طريق وأعد له خيلا ، وأسبابا يستعين بها على مقصوده ، ويقول : إنما أردت البذل والسخاء والتخلق بأخلاق الله الجميلة ، وقصدت به أن يغزو بهذا السيف والفرس في سبيل الله تعالى فإن إعداد الخيل والرباط والقوة للغزاة من أفضل القربات فإن هو صرفه إلى قطع الطريق فهو العاصي .

وقد أجمع الفقهاء على أن ذلك حرام مع أن السخاء هو أحب الأخلاق إلى الله تعالى ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله تعالى ثلاثمائة خلق ، من تقرب إليه .

بواحد منها دخل الجنة ، وأحبها إليه السخاء
فليت شعري لم حرم هذا السخاء ؟ ولم وجب عليه أن ينظر إلى قرينه الحال من هذا الظالم فإذا لاح له من عادته أنه يستعين بالسلاح على الشر فينبغي أن يسعى في سلب سلاحه لا أن يمده بغيره والعلم سلاح يقاتل به الشيطان وأعداء ، الله تعالى وقد ، يعاون به أعداء الله عز وجل وهو الهوى ، فمن لا يزال مؤثرا لدنياه على دينه ولهواه على آخرته وهو عاجز عنها لقلة فضله ، فكيف يجوز إمداده بنوع علم يتمكن به من الوصول إلى شهواته ؟ بل لم يزل علماء السلف رحمهم الله تعالى يتفقدون أحوال من يتردد إليهم فلو رأوا منه تقصيرا في نفل من النوافل أنكروه وتركوا إكرامه وإذا رأوا منه فجورا واستحلال حرام هجروه ونفوه عن مجالسهم ، وتركوا تكليمه فضلا عن تعليمه لعلمهم بأن ، من تعلم مسألة ولم يعمل بها وجاوزها إلى غيرها فليس يطلب إلا آلة الشر ، وقد تعوذ جميع السلف بالله تعالى من الفاجر العالم بالسنة وما تعوذوا من الفاجر الجاهل حكي عن بعض أصحاب أحمد بن حنبل رحمه الله أنه كان يتردد إليه سنين ثم اتفق أن أعرض عنه أحمد وهجره ، وصار لا يكلمه ، فلم يزل يسأله عن تغيره عليه وهو لا يذكره ، حتى قال : بلغني أنك طينت حائط دارك من جانب الشارع وقد ، أخذت قدر سمك الطين وهو أنملة من شارع المسلمين ، فلا تصلح لنقل العلم فهكذا كانت مراقبة السلف لأحوال طلاب العلم ، وهذا وأمثاله مما يلتبس على الأغبياء وأتباع الشيطان ، وإن كانوا أرباب الطيالسة والأكمام الواسعة ، وأصحاب الألسنة الطويلة والفضل الكثير ، أعني الفضل من العلوم التي لا تشتمل على التحذير من الدنيا ، والزجر عنها ، والترغيب في الآخرة ، والدعاء إليها ، بل هي العلوم التي تتعلق بالخلق ويتوصل بها إلى جمع الحطام ، واستتباع الناس ، والتقدم على الأقران .

فإذن : قوله عليه السلام إنما : " الأعمال بالنيات " يختص من الأقسام الثلاثة بالطاعات والمباحات دون المعاصي ؛ إذ الطاعة تنقلب معصية بالقصد ، والمباح ينقلب معصية وطاعة بالقصد فأما المعصية فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلا ، نعم للنية دخل فيها وهو أنه إذا انضاف إليها قصود خبيثة تضاعف وزرها وعظم وبالها كما ذكرنا ذلك في كتاب التوبة .

التالي السابق


بيان تفضيل الأعمال المتعلقة بالنية

(اعلم) أرشدك الله تعالى (أن الأعمال وإن انقسمت أقساما كثيرة من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر وغير ذلك مما لا يتصور إحصاؤه واستقصاؤه فهي ثلاثة أقسام: طاعات ومعاص ومباحات) كأنه يشير إلى بيان الأعمال التي ذكرت في حديث " إنما الأعمال بالنيات " وقد قالوا: إن المراد بها أعمال الجوارح حتى يدخل في ذلك الأقوال، فإنها عمل اللسان وهو من الجوارح، قال ابن دقيق العيد : ورأيت بعض المتأخرين من أهل الخلاف خصه بما لا يكون قولا، وأخرج الأقوال من ذلك، قال: وهذا عندي بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناول الأقوال أيضا .

(القسم الأول: المعاصي، وهي لا تتغير عن موضعها بالنية) ولا تصح فيها النية (فلا ينبغي أن يفهم الجاهل ذلك من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" فيظن أن المعصية تنقلب طاعة بالنية، كالذي يغتاب إنسانا مراعاة لقلب غيره) بنية الإرضاء، (أو يطعم فقيرا من مال غيره) بنية الصدقة، (أو يبني مدرسة أو مسجدا أو رباطا بمال حرام وقصده الخير) وهو بقاء أجرها بعد موته، وكذا إذا غصب أرضا بنية أن يبنيها مسجدا .

(فهذا كله جهل، والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلما وعدوانا ومعصية، بل قصده الخير بالشر على خلاف مقتضى الشرع شر آخر) فمن ذلك الإصرار على تلك المعصية، والفرح بها، واستخفافها كما ذكرناه في كتاب التوبة، (فإن عرفه فهو معاند للشرع، وإن جهله فهو عاص بجهله؛ إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم ) رواه ابن ماجه من حديث أنس، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب العلم .

(والخيرات إنما يعرف كونها خيرات بالشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خيرا هيهات! بل المروج) أي: المزين (لذلك على القلب خفي الشهوة، وباطن الهوى، فإن القلب إذا كان مائلا إلى طلب الجاه واستمالة قلوب الناس وسائر حظوظ النفوس توسل الشيطان به إلى التلبيس على الجاهل؛ ولذلك قال) أبو محمد (سهل) التستري -رحمه الله تعالى-: (ما عصي الله تعالى بمعصية أعظم من الجهل. قيل: يا أبا محمد: هل تعرف شيئا أشد من الجهل؟ قال: نعم) قيل: ما هو؟ قال: (الجهل بالجهل) قال صاحب القوت: يعني أن يكون العبد جاهلا وهو لا يعلم، أو يحسب بجهله أنه عالم، فيسكت عن جهله، ويرضى به، فيضيع فرض الفرائض، وأصل الفرائض كلها وهو طلب العلم، ولعله أن يفتي الجهال أو يتكلم بالشبهات وهو يظن أنها علم، وهذا أعظم من سكوته، وإليه أشار المصنف بقوله:

(وهو كما قال؛ لأن الجهل بالجهل يسد بالكلية باب التعلم، فمن يظن بنفسه أنه عالم فكيف يتعلم) وقد روي عن الخليل بن أحمد قال: الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم فجالسوه، ورجل يدري ويدري أنه لا يدري، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك ضال فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك جاهل فامقتوه.

(وكذلك أفضل ما أطيع الله به العلم، ورأس العلم العلم بالعلم، كما أن رأس الجهل الجهل بالجهل، فإن من لا يعلم العلم النافع من العلم الضار اشتغل بما أكب الناس عليه من العلوم المزخرفة التي هي وسائلهم إلى الدنيا، وذلك هو مادة الجهل، ومنبع فساد العالم) .

ولفظ القوت: وكذلك أيضا ما أطيع الله تعالى بمثل العلم، ومن علم العلم بالعلم أي شيء هو، وذلك أيضا واجب من حيث كان العلم واجبا؛ ليكون على بصيرة من تعلم العلم؛ لأنه قد دخل مذهب المتكلمين وأقوال الغالطين من الصوفية والقصاص في شبهات العلم، فصار زخرفا من القول غرورا يشبه العلم وليس بعلم؛ لالتباس المعنى بعضه ببعض، ولإشكال دقائق العلوم وغرائبه، وخفاء السنة من طريق علماء السلف، فاختلط لذلك القصاص والمتكلمون [ ص: 21 ] بالعلماء، فصار معرفة العلم أي شيء منه والعلم بالعالم من هو علما آخر، وصار العلم بالعلم ما هو دون الزخرف من القول كأنه عالم، فكان أيضا العلم بالعلم بمنزلة فضل العلم، ووجب وجوبه، كما كان الجهل بالجهل أعظم، وقد كان سهل -رحمه الله تعالى- يقول: قسوة القلب بالجهل أشد من قسوته بالمعاصي؛ لأن الجهل ظلمة لا ينفع البصر فيه شيئا، ونور العلم يهتدي به القاصدون وإن لم يمش .

(والمقصود أن من قصد الخير بمعصية عن جهل فهو غير معذور) ولفظ القوت: وإن كان قد خفي عليه الهوى ودق عليه لطيف حب الدنيا لجهله بالعلم فهو مأثوم فيه؛ لتقصيره في طلب العلم الذي يعرف به الإخلاص، وسكوته على الجهل الذي يدخل منه الانتقاص، ولا عذر له في ذلك. اهـ .

(إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام ولم يجد بعد مهلة للتعلم، وقد قال) الله (سبحانه: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا يعذر الجاهل على الجهل، ولا يحل للجاهل أن يسكت على جهله، ولا للعالم أن يسكت على علمه) كذا في القوت. كذا في القوت .

قال العراقي : رواه الطبراني في الأوسط وابن السني وأبو نعيم في رياضة المتعلمين من حديث جابر بسند ضعيف دون قوله: " لا يعذر الجاهل على الجهل " وقال: "لا ينبغي" بدل: "لا يحل" اهـ .

قلت: لفظ الطبراني في الأوسط: لا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه ولا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله، قال الله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقد تقدم في كتاب العلم .

(ويقرب من تقرب السلاطين ببناء المساجد والمدارس) والرباطات (بالمال الحرام تقرب العلماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار المشغولين بالفسق والفجور، والقاصرين هممهم على مماراة العلماء، ومباراة السفهاء، واستمالة وجوه الناس) إليهم (وجمع حطام الدنيا، وأخذ أموال السلاطين واليتامى والمساكين، فإن هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله، وانتهض كل واحد منهم في بلدته نائبا عن الدجال) قائما مقامه (يتكالب على الدنيا ويتبع الهوى، ويتباعد عن التقوى، ويستجرئ الناس بسبب مشاهدته على مناهي الله تعالى، ثم قد ينتشر ذلك العلم إلى مثله وأمثاله، ويتخذونه أيضا آلة ووسيلة في الشر واتباع الهوى، ويتسلسل ذلك، ووبال جميعه يرجع إلى المعلم الذي علمه بفساد نيته وقصده ومشاهدته أنواع المعاصي من أقواله وأفعاله، وفي مطعمه وملبسه ومسكنه فيموت هذا العالم وتبقى آثار شره منتشرة في العالم ألف سنة مثلا، وألفي سنة، وطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه) .

ومن هذا القبيل من يحدث الناس بحديث لا يبلغ عقولهم بنية نشر العلم (ثم العجب من جهله حيث يقول: إنما الأعمال بالنيات، وقد قصدت بذلك نشر علم الدين، فإن استعمله هو في الفساد فالمعصية منه لا مني، وما قصدت به إلا أن يستعين به على الخير، وإنما حب الرئاسة والاستتباع والتفاخر بعلو العلم يحسن ذلك في قلبه) ويزينه في عينه، (والشيطان بواسطة حب الرياسة يلبس عليه. وليت شعري ما جوابه عمن وهب سيفا من قاطع طريق) للمسلمين (وأعد له خيلا، وأسبابا يستعين بها على مقصوده، ويقول: إنما أردت البذل والسخاء والتخلق بأخلاق جميلة، وقصدت به أن يغزو بهذا السيف والفرس في سبيل الله) تعالى (فإن إعداد الخيل والقوة للغزاة من أفضل القربات) كما وردت به الأخبار .

(فإن هو صرفه إلى قطع الطريق فهو العاصي، وقد أجمع الفقهاء على أن ذلك حرام) كما حكاه ابن المنذر وغيره، وصرح به النووي تبعا للرافعي .

(مع أن السخاء هو أحب الأخلاق إلى الله تعالى، حتى قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله [ ص: 22 ] تعالى ثلاثمائة خلق، من تقرب إليه بواحد منها دخل الجنة، وأحبها إليه السخاء) تقدم في كتاب المحبة والشوق نحوه دون قوله: "وأحبها إليه السخاء".

(فليت شعري لم حرم هذا السخاء؟ ولم وجب عليه أن ينظر إلى قرينة الحال من هذا الظالم فإذا لاح له من عادته أنه يستعين بالسلاح على الشر فينبغي أن يسعى في سلب سلاحه لا في أن يمده بغيره) هذا في السلاح الظاهر .

(والعلم) أيضا بمنزلة (سلاح) في أنه (يقاتل به الشيطان، و) سائر (أعداء الله، و) هو (قد يعاون به أعداء الله وهو الهوى، فمن لا يزال مؤثرا لدنياه على دينه ولهواه على آخرته وهو عاجز عنها لقلة فضله، فكيف يجوز إمداده بنوع علم يتمكن به من الوصول إلى شهواته؟ بل لم يزل علماء السلف -رحمهم الله تعالى- يتفقدون أحوال من يتردد إليهم) لأجل الاستفادة (فلو رأوا منه تقصيرا في نفل من النوافل) فضلا عن الفرائض (أنكروه وتركوا إكرامه) وأعرضوا عنه بوجوههم .

(وإذا رأوا منه فجورا أو استحلال حرام هجروه ونفوه عن مجالسهم، وتركوا تكليمه فضلا عن تعليمه لعلمهم، فإن من تعلم مسألة ولم يعمل بها وجاوزها إلى غيرها فليس يطلب إلا آلة الشر، وقد تعوذ جميع السلف بالله من الفاجر العالم بالسنة ولم يتعوذوا من الفاجر الجاهل) وقد روي ذلك عن عمر وغيره .

وقال أحمد بن عبد الله العجلي : قال عمر -رضي الله عنه- للأحنف بن قيس مع قومه من بني تميم لما دخل عليه وكلمه: "ويحك يا أحنف لما رأيتك ازدريتك، فلما نطقت قلت لعله منافق في صنع اللسان، فلما اختبرتك حمدتك؛ ولذلك حبستك " وكان حبسه سنة .

وروى مالك بن مغول، عن أبي حصين، عن زياد بن حدير قال. قال عمر : يهدم الإسلام ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون .

وفي جزء أبي الجهم : حدثنا سوار، حدثنا مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد، عن ابن عباس قال: خطبنا عمر فقال: إن أخوف ما أخاف عليكم تغير الزمان، وزيغة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون يضلون الناس بغير علم .

قلت: وقد روي بعض ذلك مرفوعا من حديث عمر وغيره. روى أحمد وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة، وابن عدي ونصر المقدسي في الحجة، والبيهقي والضياء من حديث عمران : " أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان " .

ورواه الطبراني والبيهقي من حديث عمر بن الحصين بلفظ: "عليكم بعدي" بدل قوله: "على أمتي" .

وروى أبو نصر السجزي في الإبانة من حديث ابن عمر : " إن أخوف ما أخاف على أمتي ثلاثة: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم فاتهموها على أنفسكم " ورواه الطبراني نحوه من حديث معاذ .

(حكي عن بعض أصحاب) الإمام (أحمد بن حنبل) رحمه الله تعالى (أنه كان يتردد إليه سنين) للاستفادة، وكان يقبل إليه بوجهه ويكرمه ويفيده (ثم اتفق أن أعرض عنه أحمد وهجره، وصار لا يكلمه، فلم يزل يسأله عن تغيره عليه وهو لا يذكره، حتى قال: بلغني أنك طينت حائط دارك من جانب الشارع، فقد أخذت قدر سمك الطين وهو أنملة من شارع المسلمين، فلا تصلح لنقل العلم) نقله صاحب القوت .

(فهكذا كانت مراقبة السلف لأحوال طلاب العلم، وهذا وأمثاله مما يلتبس على الأغبياء وأتباع الشيطان، وإن كانوا أرباب الطيالسة والأكمام الواسعة، وأصحاب الألسنة الطويلة والفضل الكثير، أعني الفضل من العلوم التي لا تشتمل على التحذير من الدنيا، والزجر عنها، والترغيب في الآخرة، والدعاء إليها، بل هي العلوم التي تتعلق بالخلق) في فصل خصوماتهم ونظم معايشهم (ويتوصل بها إلى جمع الحطام، واستتباع الناس، والتقدم على الأقران) بالرياسة والافتخار .

(فإذا: قوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات") هكذا رواه ابن حبان في الأنواع والتقاسيم بدون: "إنما" (يختص من الأقسام الثلاثة بالطاعات والمباحات) فقط (دون [ ص: 23 ] المعاصي؛ إذ الطاعة تنقلب معصية، والمباح ينقلب معصية وطاعة بالقصد) والنية (فأما المعصية فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلا، نعم للنية دخل فيها وهو أنه انضاف إليها قصود خبيثة تضاعف وزرها وعظم وبالها) من الإصرار والفرح والاستخفاف (كما ذكرنا لك في كتاب التوبة) فلا نعيده .




الخدمات العلمية