الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ويدل على التفاوت ما روي أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس لما زوج أخته فاطمة من سالم مولاه عاتبته قريش في ذلك ، وقالوا : أنكحت عقيلة من عقائل قريش لمولى ؟! فقال : والله لقد أنكحته إياها .

وإني لأعلم أنه خير منها ، فكان قوله ذلك أشد عليهم من فعله فقالوا : وكيف وهي أختك ، وهو مولاك ؟! فقال : سمعت رسول الله : صلى الله عليه وسلم : يقول : من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم فهذا يدل على أن من الناس من لا يحب الله بكل قلبه ، فيحبه ويحب أيضا غيره ، فلا جرم يكون نعيمه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه ، وعذابه بفراق الدنيا عند الموت على قدر حبه لها .

وأما السبب الثاني للكراهة ، فهو أن يكون العبد في ابتداء مقام المحبة وليس يكره الموت وإنما يكره عجلته قبل أن يستعد للقاء الله فذلك ، لا يدل على ضعف الحب ، وهو كالمحب الذي وصله الخبر بقدوم حبيبه عليه ، فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيئ له داره ويعد له أسبابه ، فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن الشواغل خفيف الظهر عن العوائق فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال الحب أصلا وعلامته الدؤوب في العمل واستغراق الهم في الاستعداد .

التالي السابق


(ويدل على التفاوت ما روي أن أبا حذيفة) هشم، وقيل: هشيم، وقيل: هاشم، وقيل: قيس (بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس) بن عبد مناف القرشي العبشمي من السابقين، هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين، كان طوالا حسن الوجه، استشهد يوم اليمامة، وهو ابن ست وخمسين سنة (لما زوج أخته فاطمة) ابنة عتبة (من سالم مولاه) هكذا هو نص القوت والذي في الإصابة في ترجمة سالم، وكان أبو حذيفة قد تبناه كما تبنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة، فكان أبو حذيفة يرى أنه ابنه؛ فأنكحه ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة، فلما أنزل الله: ادعوهم لآبائهم رد كل أحد تبنى ابنا من أولئك إلى أبيه، ومن لم يعرف إلى مواليه، قال: أخرجه مالك في الموطأ عن الزهري عن عروة بهذا. وذكر في ترجمة فاطمة بنت الوليد بن عتبة هذه أنها من المهاجرات الفاضلات زوجها عمها أبو حذيفة بن عتبة سالما الذي يقال له مولى أبي حذيفة، وذكر في ترجمة فاطمة بنت عتبة أخت أبي حذيفة أنها أخت هند أم معاوية بن أبي سفيان، ونقل عن ابن سعد أنه قال: تزوجها قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف، فولدت له الوليد وهشاما ومسلما وعتبة وأمية وفاختة، ثم أسلمت وبايعت وتزوجها عقيل بن أبي طالب، وذكر لها معه قصة، وقد ظهر بما ذكرنا أن التي تزوجها سالم هي فاطمة بنت الوليد لا ابنة عتبة؛ فتأمل (عاتبته قريش في ذلك، وقالوا: أنكحت عقيلة من عقائل قريش لمولى؟!) يعنون به سالما -رضي الله عنه- (فقال: والله لقد أنكحته إياها، وإني لأعلم أنه خير منها، فكان قوله عليهم أشد من فعله [ ص: 618 ] قالوا: وكيف وهي أختك، وهو مولاك؟! فقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من أراد أن ينظر إلى رجل يحب الله بكل قلبه فلينظر إلى سالم) هكذا هو في القوت .

وقال العراقي: لم أره من حديث أبي حذيفة، وروى أبو نعيم في الحلية المرفوع منه من حديث عمران: سالما يحب الله حقا من قلبه، وفي رواية له: إن سالما شديد الحب لله -عز وجل- ما عصاه، وفيه ابن لهيعة. ا ه. قلت: قال أبو نعيم، حدثنا محمد بن علي بن حبيش، حدثنا أحمد بن حماد بن سفيان، حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان، قال: حدثني أبو صالح كاتب الليث، قال: حدثني عبد الله بن لهيعة بن عبادة بن سني، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: سمعت عبد الله بن الأرقم يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر سالما مولى أبي حذيفة، فقال: إن سالما شديد الحب لله، رواه حبيب بن نجيح عن عبد الرحمن بن غنم، حدثت عن سعيد بن سليمان، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن الجراح بن منهال، عن حبيب بن نجيح، عن عبد الرحمن بن غنم قال: قدمت المدينة في زمان عثمان، فأتيت عبد الله بن الأرقم، فقال: حضرت عمر عند وفاته مع ابن عباس والمسور بن مخرمة، فقال عمر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن سالما شديد الحب لله، لو كان لا يخاف الله ما عصاه، فلقيت ابن عباس فذكر ذلك له، فقال: صدق، انطلق بنا إلى المسور حتى نحدثك به، فجئنا المسور، فقلت: إن عبد الله بن الأرقم حدثني بهذا الحديث، فقال: حسبك، لا تسأل عنه بعد عبد الله بن الأرقم، حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا محمود بن خداش، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا سعيد، قال: سمعت شهر بن حوشب يقول: قال عمر بن الخطاب: لو استخلفت سالما مولى أبي حذيفة فسألني عنه ربي: ما حملك على ذلك؟ لقلت: رب سمعت نبيك -صلى الله عليه وسلم-، وهو يقول: إنه يحب الله حقا من قلبه (فهذا يدل على أن من الناس من لا يحب الله بكل قلبه، فيحبه ويحب أيضا غيره، فلا جرم يكون نعيمه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه، وعذابه بفراق الدنيا عند الموت على قدر حبه لها) .

وقال صاحب القوت بعد أن أورد الحديث المذكور ما نصه: ففي دليله أن من المؤمنين من يحب الله ببعض قلبه فيؤثره بعض الإيثار وتوجد فيه محبة الأغيار، ومنهم من يحبه بكل قلبه فيؤثره على ما سواه، فهذا عابد ومألوهه الذي لا معبود له ولا إله إلا إياه، وفيه دليل على أنهم على مقامات في المحبة عن معاني مشاهدات الصفات ما بين البعض في القلوب والكلية. ا ه. وقال الكمال محمد بن إسحاق الصوفي: ذهب قوم من السلف إلى أن محبة الزوجة والولد والأسباب التي هي من ضرورات الحياة تنقص المحبة، وذهب الإمام الغزالي إلى خلاف ذلك، فقال في بعض كلام له: كل ما يحبه العبد من الدنيا ليتوصل بذلك إلى محبة الله فهو من محبة الله، وأما الإمام أبو طالب المكي فقال: الركون إليها يخرج عن المحبة، قلت: إذا ركن إليها بطبعه وعقله، وأما بمجرد الطبع فلا يخرج عن المحبة، لكن ينقص كمالها عندي؛ لأن المحبة إذا قويت كدرت صفو ما سواها من الشهوات، فيكون المحب معها بقالبه لا بقلبه، ويكون مع الشهوات المباحة؛ لأجل أمر الله لا شهوة ولا رغبة، وهذا هو الذي أراده الإمام أبو طالب بقوله: إن محبة الزوجة والولد لا ينقض ذلك عندي. وعلله فقال: إن محبة الله من نور الإيمان ومحبة الزوجة والولد من العقل، ومثل هذا لا يخفى عليه أن العقل لا يحب المحسوسات ولا يميل إليها، وإنما، والله أعلم، لما كان للقلب وجهتان وجهة إلى الله مستمد منها المعارف ومزايد القلب وجهة إلى بدنه ليدبره ويقوم بمصالحه، وكان المحب لا يرجع من الوجه الذي يلي ربه إلى الوجه الذي يدبر به المصالح إلا لضرورة سفره، سمي محبة الزوجة والولد بهذا الاعتبار عقلا؛ لأن هذا لا يتناول من الدنيا إلا كما يتناول المريض الأدوية النافعة، لا يأخذ منها إلا بقدر الحاجة، وهذه أحوال السلف من المحبين ا ه .

(وأما السبب الثاني للكراهة، فهو أن يكون العبد في ابتداء مقام المحبة وليس يكره الموت وإنما يكره عجلته قبل أن يستعد للقاء الله، فذاك لا يدل على ضعف الحب، وهو كالمحب الذي وصله الخبر بقدوم حبيبه عليه، فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيئ له داره ويعد له أسبابه، فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن الشواغل خفيف الظهر من العوائق) لا للتمتع بالدنيا (فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال الحب أصلا) وترك اختياره لاختيار الله في هذا الباب أولى (وعلامته الدؤوب في العمل واستفراغ الهم في الاستعداد) فإن قصر في عمله فليس من الاستعداد في شيء .




الخدمات العلمية