الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم درجات القرب تتفاوت تفاوتا لا نهاية له أيضا ؛ لأجل انتفاء النهاية عن ذلك الكمال .

فإذا محبة الله للعبد تقريبه من نفسه بدفع الشواغل والمعاصي عنه وتطهير باطنه عن كدورات الدنيا ورفع الحجاب عن قلبه حتى يشاهده كأنه يراه بقلبه .

وأما محبة العبد لله فهو ميله إلى درك هذا الكمال الذي هو مفلس عنه فاقد له ؛ فلا جرم يشتاق إلى ما فاته ، وإذا أدرك منه شيئا يلتذ به والشوق ، والمحبة بهذا المعنى محال على الله تعالى .

فإن قلت : محبة الله للعبد أمر ملتبس فيما يعرف العبد أنه حبيب الله ، فأقول : يستدل عليه بعلاماته .

وقد قال : صلى الله عليه وسلم : إذا أحب الله عبدا ابتلاه فإذا ، أحبه الحب البالغ اقتناه ، قيل : وما اقتناه ؟ قال : لم يترك له أهلا ولا مالا فعلامة محبة الله للعبد أن يوحشه من غيره ويحول بينه وبين غيره قيل لعيسى عليه السلام : لم لا تشتري حمارا فتركبه ؟ فقال : أنا أعز على الله تعالى من أن يشغلني عن نفسه بحمار .

وفي الخبر : إذا أحب الله تعالى عبدا ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه وقال بعض العلماء : إذا رأيتك تحبه ورأيته يبتليك ، فاعلم أنه يريد أن يصافيك وقال بعض المريدين لأستاذه : قد طولعت بشيء من المحبة ، فقال : يا بني هل ابتلاك بمحبوب سواه فآثرت عليه إياه ؟ قال : لا ، قال : فلا تطمع في المحبة ؛ فإنه لا يعطيها عبدا حتى يبلوه .

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أحب الله تعالى عبدا جعل له واعظا من نفسه وزاجرا من قلبه يأمره وينهاه وقد قال إذا أراد الله تعالى بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه فأخص علاماته حبه لله ؛ فإن ذلك يدل على حب الله .

وأما الفعل الدال على كونه محبوبا ، فهو أن يتولى الله تعالى أمره ظاهره وباطنه سره وجهره ؛ فيكون هو المشير عليه والمدبر لأمره والمزين لأخلاقه والمستعمل لجوارحه والمسدد لظاهره وباطنه والجاعل همومه هما واحدا والمبغض للدنيا في قلبه والموحش له من غيره والمؤنس له بلذة المناجاة في خلواته والكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته .

فهذا وأمثاله هو علامة حب الله للعبد .

التالي السابق


(ثم درجات القرب تتفاوت تفاوتا لا نهاية له أيضا ؛ لأجل انتفاء النهاية عن ذلك الكمال) وسبب ذلك تفاوت درجات القرب بتفاوتهم في درجات المعرفة، وإنما كان هذا التفاوت لا نهاية له؛ لأن ما لا يقدر الآدمي على معرفته من معلومات الله تعالى لا نهاية له وما يقدر عليه أيضا لا نهاية له، وإن كان ما يدخل في الوجود منه متناهيا، ولكن مقدور الآدمي من العلوم لا نهاية له، وإن كان ما يدخل في الوجود متناهيا تعم الخارج إلى الوجود، متفاوت في القلة والكثرة، وبه يظهر تفاوت الناس في المعرفة والكمال والقرب (فإذا محبة الله تعالى للعبد يشاهده كأنه يراه بقلبه، وأما محبة العبد لله فهو ميله إلى درك هذا الكمال الذي هو مفلس عنه) وعري عنه (فاقد له؛ فلا جرم يشتاق إلى ما فاته، وإذا أدرك منه شيئا يلتذ به، والمحبة بهذا المعنى محال على الله تعالى) فليست محبة العبد له متضمنة ميلا ولا احتظاظا، كيف وحقيقة الصمدية مقدسة عن اللحوق والدرك والإحاطة؟! (فإن قلت: محبة الله للعبد أمر ملتبس فيما يعرف العبد أنه حبيب الله تعالى، فأقول: يستدل عليه بعلاماته، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإن أحبه الحب البالغ اقتناه، قيل: وما اقتناه؟ قال: لم يترك له أهلا ولا مالا) هكذا هو في القوت، وقد رواه الطبراني من حديث أبي عتبة الخولاني، وقد تقدم قريبا (فعلامة محبة الله للعبد أن يوحشه من غيره ويحول بينه وبين غيره) فلا يشغله بسواه (قيل لعيسى -عليه السلام-: لم لا تشتري حمارا فتركبه؟) فإنه كان كثير السياحة على رجليه، والقائل له بعض الحواريين (فقال: أنا أعز على الله تعالى من أن يشغلني عن نفسه بحمار) رواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف عن ثابت البناني، قال: قيل لعيسى -عليه السلام-: لو اتخذت حمارا تركبه؟ فقال: أنا أكرم على الله من أن يجعل لي شيئا يشغلني به. (وفي الخبر: إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه) هكذا في القوت .

قال العراقي: ذكره صاحب الفردوس من حديث علي بن أبي طالب ولم يخرجه ولده في مسنده (وقال بعض العلماء: إذا رأيتك يحب الله ورأيته يبتليك، فاعلم أنه يريد أن يصافيك) كذا في القوت .

ويشهد له ما رواه البيهقي في الشعب من مرسل سعيد بن المسيب: إذا أحب الله عبدا ألصق به البلاء؛ فإن الله يريد أن يصافيه. (وقال بعض المريدين لأستاذه: قد طولعت بشيء من المحبة، فقال: يا بني هل ابتلاك بمحبوب سواه فآثرت عليه إياه؟ قال: لا، قال: فلا تطمع في المحبة؛ فإنه لا يعطيها عبدا حتى يبلوه) أي: يختبره. كذا في القوت (وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا أحب الله عبدا جعل له واعظا من نفسه وزاجرا من قلبه يأمره وينهاه) .

قال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أم سلمة بإسناد حسن بلفظ: إذا أراد الله بعبد خيرا. اهـ .

قلت: وليس عند الديلمي قوله: زاجرا من قلبه (وقد قال) -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أراد الله بعبد خيرا بصره بعيب نفسه) .

قال العراقي: رواه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بزيادة فيه بإسناد ضعيف، وقد تقدم (فأخص علاماته حبه لله تعالى؛ فإن ذلك يدل على حب الله) له (وأما الفعل الدال على كونه لفعله محبوبا، فهو أن يتولى الله تعالى أمره ظاهره وباطنه وسره وجهره؛ فيكون هو المشير عليه المدبر لأمره) والمزكي لفعله (والمزين لأخلاقه والمستعمل لجوارحه والمسدد لظاهره وباطنه والجاعل همومه هما واحدا والمبغض للدنيا في قلبه والموحش له من غيره والمؤنس له بلذة المناجاة في خلواته والكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته، فهذا وأمثاله هو علامة حب الله) تعالى (للعبد) .




الخدمات العلمية