وفي أخبار داود عليه السلام أن الله تعالى قال : يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني ، وجليس لمن جالسني ومؤنس ، لمن أنس بذكري وصاحب لمن صاحبني ومختار لمن اختارني ومطيع لمن أطاعني ، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حبا لا يتقدمه أحد من خلقي ، من طلبني بالحق وجدني ومن طلب غيري لم يجدني ؛ فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها ، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ، وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم ؛ فإني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي وموسى نجيي ومحمد صفيي ، وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي .
وروي عن بعض السلف أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين : إن لي عبادا من عبادي يحبوني وأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ويذكروني وأذكرهم وينظرون إلي وأنظر إليهم فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك ، قال : يا رب : وما علامتهم ؟ قال : يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه ، ويحنون إلى غروب الشمس كما يحن الطائر إلى وكره عند الغروب ، فإذا جنهم الليل ، واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلي أقدامهم وافترشوا إلي وجوههم ، وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي ، فبين صارخ وباك وبين متأوه وشاك ، وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد ، بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي ، أول ما أعطيهم ثلاث : أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني ، كما أخبر عنهم .
والثانية : لو كانت السموات والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللنها لهم .
والثالثة : أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه .
وفي أخبار داود عليه السلام : أن الله تعالى أوحى إليه : يا داود إلى كم تذكر الجنة ولا تسألني الشوق إلي ؟ قال : قال : إن المشتاقين إلي الذين صفيتهم من كل كدر ونبهتهم بالحذر وخرقت من قلوبهم إلي خرقا ينظرون إلي وإني لأحمل قلوبهم بيدي فأضعها على سمائي ، ثم أدعو نجباء ملائكتي ، فإذا اجتمعوا سجدوا لي ، فأقول : إني لم أدعكم لتسجدوا لي ولكني دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلي وأباهي بكم أهل الشوق إلي ؛ فإن قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي ، كما تضيء الشمس لأهل الأرض ، يا يا رب ، من المشتاقون إليك ؟ داود إني ، فاتخذتهم لنفسي محدثي وجعلت أبدانهم موضع نظري إلى الأرض ، وقطعت من قلوبهم طريقا ينظرون به إلي يزدادون في كل يوم شوقا ، قال داود يا رب أرني أهل محبتك ، فقال : يا خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ونعمتها بنور وجهي داود ، ائت جبل لبنان فإن فيه أربعة عشر نفسا فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول ، فإذا أتيتهم فأقرئهم مني السلام وقل لهم : إن ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم : ألا تسألون حاجة ؟ فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي ، أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم .
فأتاهم داود عليه السلام : فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة الله : عز وجل : فلما نظروا إلى داود عليه السلام : نهضوا ليتفرقوا عنه ، فقال داود إني رسول الله إليكم جئتكم لأبلغكم رسالة ربكم ؛ فأقبلوا نحوه وألقوا أسماعهم نحو قوله وألقوا أبصارهم إلى الأرض ، فقال داود إني رسول الله إليكم يقرئكم السلام ويقول لكم : ألا تسألون حاجة ؟ ألا تنادوني أسمع صوتكم وكلامكم ؟ فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي ، أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم وأنظر إليكم في كل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة قال : فجرت الدموع على خدودهم ؛ فقال شيخهم : سبحانك سبحانك ! نحن عبيدك وبنو عبيدك ؛ فاغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك فيما مضى من أعمارنا ، وقال الآخر : سبحانك سبحانك ! نحن عبيدك وبنو عبيدك فامنن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك ، وقال الآخر : سبحانك سبحانك ! نحن عبيدك وبنو عبيدك أفنجترئ على الدعاء ؟! وقد علمت أنه لا حاجة لنا في شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق إليك وأتمم بذلك المنة علينا .
وقال الآخر : نحن مقصرون في طلب رضاك فأعنا عليه بجودك .
وقال الآخر : من نطفة خلقتنا ومننت علينا بالتفكر في عظمتك أفيجترئ على الكلام من هو مشتغل بعظمتك متفكر في جلالك وطلبتنا الدنو من نورك .
وقال الآخر : كلت ألسنتنا عن دعائك لعظم شأنك وقربك من أوليائك وكثرة منتك على أهل محبتك .
وقال الآخر : أنت هديت قلوبنا لذكرك فرغتنا للاشتغال بك فاغفر لنا تقصيرنا في شكرك .
وقال الآخر : قد عرفت حاجتنا إنما هي النظر إلى وجهك .
وقال الآخر : كيف يجترئ العبد على سيده إذ ؟! أمرتنا بالدعاء بجودك فهب لنا نورا نهتدي به في الظلمات من أطباق السموات .
وقال الآخر : ندعوك أن تقبل علينا وتديمه عندنا .
وقال الآخر: نسألك تمام نعمتك فيما وهبت لنا وتفضلت به علينا .
وقال الآخر : لا حاجة لنا في شيء من خلقك ؛ فامنن علينا بالنظر إلى جمال وجهك .
وقال الآخر : أسألك من بينهم أن تعمي عيني عن النظر إلى الدنيا وأهلها وقلبي عن الاشتغال بالآخرة .
وقال الآخر : قد عرفت تباركت وتعاليت أنك تحب أولياءك فامنن علينا باشتغال القلب بك عن كل شيء دونك فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قل لهم : قد سمعت كلامكم وأجبتكم إلى ما أحببتم ؛ فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه سربا ؛ فإني كاشف الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلى نوري وجلالي ، فقال داود يارب ، بم نالوا هذا منك ؟ قال : بحسن الظن والكف عن الدنيا وأهلها والخلوات بي ومناجاتهم لي وإن هذا منزل لا يناله إلا من رفض الدنيا وأهلها ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرغ قلبه لي واختارني على جميع خلقي ؛ فعند ذلك أعطف عليه وأفرغ نفسه وأكشف الحجاب فيما بيني وبينه حتى ينظر إلي نظر الناظر .
بعينه إلى الشيء وأريه كرامتي في كل ساعة وأقربه من نور وجهي ، إن مرض مرضته كما تمرض الوالدة الشفيقة ولدها ، وإن عطش أرويته ، وأذيقه طعم ذكري ، فإذا فعلت ذلك به يا داود عميت نفسه عن الدنيا وأهلها ولم أحببها إليه ، لا يفتر عن الاشتغال بي ، يستعجلني القدوم وأنا أكره أن أميته ؛ لأنه موضع نظري من بين خلقي ، لا يرى غيري ولا أرى غيره ، فلو رأيته يا داود وقد ذابت نفسه ونحل جسمه وتهشمت أعضاؤه وانخلع قلبه إذا سمع بذكري أباهي به ملائكتي وأهل سماواتي ، يزداد خوفا وعبادة ، وعزتي وجلالي يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدره من النظر إلي حتى يرضى وفوق الرضا .
وفي أخبار داود أيضا قل لعبادي المتوجهين إلى محبتي : ما ضركم إذا احتجبت عن خلقي ورفعت الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلي بعيون قلوبكم ؟! وما ضركم ما زويت عنكم من الدنيا إذا بسطت ديني لكم ؟! . وما ضركم مسخطة الخلق إذا التمستم رضائي
؟! وفي أخبار داود أيضا : إن الله تعالى أوحى إليه : تزعم أنك تحبني ، فإن كنت تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك ؛ فإن حبي وحبها لا يجتمعان في قلب .
يا داود خالص حبيبي مخالصة ، وخالط أهل الدنيا مخالطة ، ودينك فقلدنيه ولا تقلد دينك الرجال ، أما ما استبان لك مما وافق محبتي فتمسك به ، وأما ما أشكل عليك فقلدنيه حقا على أني أسارع إلى سياستك وتقويمك وأكون قائدك ودليلك ، أعطيك من غير أن تسألني وأعينك على الشدائد ، وإني قد حلفت على نفسي أني لا أثيب إلا عبدا قد عرفت من طلبته وأردته إلقاء كنفه بين يدي وأنه لا غنى به عني .
فإذا كنت كذلك نزعت الذلة والوحشة عنك وأسكن الغنى قلبك ؛ فإني قد حلفت على نفسي أنه لا يطمئن عبد لي إلى نفسه ينظر إلى فعالها إلا وكلته إليها أضعف الأشياء إلي لا تضاد عملك فتكون متعنيا ، ولا ينتفع بك من يصحبك ولا تجد لمعرفتي حدا ؛ فليس لها غاية ، ومتى طلبت مني الزيادة أعطك ، ولا تجد للزيادة مني حدا ، ثم أعلم بني إسرائيل أنه ليس بيني وبين أحد من خلقي نسب ؛ فلتعظم رغبتهم وإرادتهم عندي أبح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ضعني بين عينيك وانظر إلي ببصر قلبك ولا تنظر بعينك التي في رأسك إلى الذين حجبت عقولهم عني فأمرحوها وسخت بانقطاع ثوابي عنها ؛ فإني حلفت بعزتي وجلالي لا أفتح ثوابي لعبد دخل في طاعتي للتجربة والتسويف تواضع لمن تعلمه ولا تطاول على المريدين ؛ فلو علم أهل محبتي منزلة المريدين عندي لكانوا لهم أرضا يمشون عليها .
يا داود لأن تخرج مريدا من سكرة هو فيها تستنقذه فأكتبك عندي جهيدا ، ومن كتبته عندي جهيدا لا تكون عليه وحشة ولا فاقة إلى المخلوقين .
، يا داود تمسك بكلامي وخذ من نفسك لنفسك ، لا تؤتين منها فأحجب عنك محبتي ، لا تؤيس عبادي من رحمتي اقطع شهوتك لي ، فإنما أبحت الشهوات لضعفة خلقي ، ما بال الأقوياء أن ينالوا الشهوات ؟! فإنها تنقص حلاوة مناجاتي ، وإنما عقوبة الأقوياء عندي في موضع التناول أدنى ما يصل إليهم أن أحجب عقولهم عني ؛ فإني لم أرض الدنيا لحبيبي ونزهته عنها .
يا داود لا تجعل بيني وبينك عالما يحجبك بسكره عن محبتي ، أولئك قطاع الطريق على عبادي المريدين ، ، وإياك والتجربة في الإفطار ؛ فإن محبتي للصوم إدمانه . استعن على ترك الشهوات بإدمان الصوم
يا داود تحبب إلي بمعاداة نفسك امنعها الشهوات ، أنظر إليك وترى الحجب بيني وبينك مرفوعة : إنما أداريك مداراة لتقوى على ثوابي إذا مننت عليك به وإني أحبسه عنك وأنت متمسك بطاعتي .
أوحى الله تعالى إلى داود يا داود ، لماتوا شوقا إلي وتقطعت أوصالهم من محبتي . لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم
يا داود هذه إرادتي في المدبرين عني ، فكيف إرادتي في المقبلين علي .
؟! يا داود ، أحوج ما يكون العبد إلي إذا استغنى عني ، وأرحم ما أكون بعبدي إذا أدبر عني ، وأجل ما يكون عندي إذا رجع إلي فهذه الأخبار ونظائرها مما لا يحصى تدل على وإنما ، تحقيق معناها ينكشف بما سبق . إثبات المحبة والشوق والأنس