الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
إذ يستحيل أن يكون محلا للحوادث ، داخلا تحت التغير بل يجب للصفات من نعوت القدم ما يجب للذات ; فلا تعتريه التغيرات ، ولا تحله الحادثات بل لم يزل في قدمه موصوفا بمحامد الصفات ولا يزال في أبده كذلك منزها عن تغير الحالات لأن ما كان محل الحوادث لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث .

وإنما ثبت نعت الحدوث للأجسام من حيث تعرضها للتغير وتقلب الأوصاف ; فكيف يكون خالقها مشاركا لها في قبول التغير وينبني ؟! على هذا أن كلامه قديم قائم بذاته ، وإنما الحادث هي الأصوات الدالة عليه وكما عقل قيام طلب التعلم وإرادته بذات الوالد للولد قبل أن يخلق ولده حتى ، إذا خلق ولده وعقل وخلق الله له علما متعلقا بما في قلب أبيه من الطلب ، صار مأمورا بذلك الطلب الذي قام بذات أبيه ، ودام وجوده إلى وقت معرفة ولده له فليعقل قيام الطلب الذي دل عليه قوله عز وجل فاخلع نعليك بذات الله ومصير موسى عليه السلام مخاطبا به بعد وجوده إذ خلقت له معرفة بذلك الطلب وسمع لذلك الكلام القديم .

التالي السابق


ثم استدل المصنف على قدم الكلام بامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى، فقال: (إذ يستحيل أن يكون) الباري تعالى (محلا للحوادث، داخلا تحت التغير) ، وما كان محلا للحوادث يعتريه التغير، والمراد بالحوادث التي امتنع الباري تعالى أن تحل هي به ما له وجود حقيقي مسبوق بالعدم، لا المتجدد من الصفات الإضافية التي لا وجود لها، ككونه تعالى قبل العالم وبعده ومعه، أو السلبية، ككونه مثلا غير رازق لزيد الميت، ولا ما يتبع تعلق صفاته، كالخالق والرازق; فإن هذا كله ليس [ ص: 151 ] محل النزاع .

وبالجملة ففرق بين الحادث والمتجدد، فيجوز اتصافه بالمتجدد; إذ الصفات المتجددة محض اعتبار وإضافة، فلم يلزم من ذلك محال، وبهذا يعلم محل النزاع، (بل يجب للصفات) المقدسة (من نعوت القدم ما يجب للذات; فلا تعتريه التغيرات، ولا تحله الحادثات) ولا يتصف بقبولها، ولا يقال: إنها أغيار له; لأن حقيقة الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما لصاحبه بزمان أو مكان، ولا يجوز أن تفارق صفات الباري تعالى ذاته; فإطلاق لفظ الغيرية بعيد، (بل لم يزل) جل وعز (فى قدمه موصوفا بمحامد الصفات) ، أي: بالصفات المحمودة (ولا يزال) تعالى (فى أبده كذلك) موصوفا بها (منزها عن تغير الحالات) .

وذهبت المعتزلة والنجارية والزيدية والإمامية والخوارج إلى أن كلام الله حادث، وامتنع طائفة من هؤلاء من إطلاق القول بكونه مخلوقا، وسموه حادثا، وأطلق المتأخرون من المعتزلة كونه مخلوقا، ونحن نقول: لو كان كلام الله حادثا، لم يخل من أمور ثلاثة: إما أن يقوم بذات الباري، أو بجسم من الأجسام، أو لا بمحل، وباطل قيامه به; فإن الحوادث يستحيل قيامها بذات الباري تعالى; (لأن ما كان محل الحوادث لا يخلو عنها) ، أي عن الحوادث (وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث) ; لأنه لا تقوم الحوادث إلا بحادث، ولو قام بجسم لكان المتكلم ذلك الجسم، ويبطل وجود الكلام لا في محل; لأنه عرض من الأعراض، ويستحيل قيام الأعراض بأنفسها; إذ لو جاز لك في ضرب منها، لجاز في سائرها (وإنما ثبت نعت الحدث للأجسام من حيث تعرضها للتغير) ، وقبولها له، وحلوله فيها، (وتقلب الأوصاف; فكيف يكون خالقها) أي: تلك الأجسام (مشاركا لها) أي: تلك الأجسام (في) أوصافها اللازمة لها (قبول التغير؟!) وتقلب الوصف (وينبغي على هذا) الذي ذكر آنفا من الاستدلال (أن كلامه قديم قائم بذاته، وإنما الحادث هي الأصوات الدالة عليه) ، ولتعلم أن القرآن بالمعنى الأزلي لا يدخل تحت الزمان، ولا بوصف بماض ولا مستقبل ولا حال، ضرورة أن الأزلي مناف للزمان; لأن الزمان من لواحق الحادث، ولا شيء من الحوادث بأزلي، وأما بمعنى الفعل الدال على ذلك، أو بعض ما هو متعلق ذلك، فنعم; فنحو قوله تعالى: وقال موسى ، فعصى فرعون ; فالداخل تحت الزمان من ذلك هو الدال، لا المدلول القديم، والمتعلق به اسم مفعول، والتعلق التنجيزي، لا المتعلق، اسم فاعل، الذي هو صفة واحدة لا تعداد فيها، ولا التعلق الصلاحي، ونحو قوله تعالى: وهو العلي العظيم ; فالدال وحده حادث، وأما المدلول الذي هو الصفة، والمتعلق الذي هو الذات المسند إليه، والصفة التي هي المسند، والنسبة التي هي الوقوع، والتعلق بجميع ذلك قديم، ونحو قوله تعالى: إنا أرسلنا نوحا ، الله الذي يرسل الرياح ; فالدال حادث، والمدلول الذي هو الصفة قديمة، والمتعلق بعضه قديم، وهو الذات المسند إليه، والحاصل أن المتعلق قد يكون كله قديما، وقد يكون كله حادثا، وقد يكون بعضه وبعضه، فاعلم ذلك .

ودليل آخر على قدم الكلام، هو أنه لو كان كلامه تعالى مخلوقا لكان قبل أن يخلق لنفسه الكلام بضد الكلام موصوفا، وهو باطل، أو كان ذلك الضد قديما، والقديم لا يعدم، فيجب في سياق ذلك ألا يكون الباري تعالى قط متكلما، وهو كفر، فقد ثبت أن كلام الباري تعالى قديم، وأورد ابن الهمام في المسايرة ما استدل به المصنف على طريق التنزل، فقال: لو لم يمتنع قيام الحوادث به، وقام بذاته معنى، فترددنا في قدمه معه، وحدوثه فيه، ولا معنى لأحدهما، وجب إثبات قدم ذلك المعنى; لأن الأنسب بالقديم من حيث هو قديم قدم صفاته، إذ القديم بالقدم أنسب من الحادث بالقديم; لاتحادهما في وصف القدم، ولأن الأصل من صفات القديم من حيث هو قديم عدم الحدوث، فكيف لا يجب إثبات قدم المعنى القائم بذاته إذا بطل قيام الحوادث به بأدلته المبينة في محالها، فقد وجد المقتضي لثبوت قدم المعنى القائم بذاته تعالى، مع أنه لا مانع من قدم كلامه النفسي، وإذا ثبت وجود المقتضي وانتفاء المانع، ثبت المدعى، وقد أشار المصنف إلى انتفاء المانع بقوله: (وكما عقل قيام طلب العلم وإرادته بذات الوالد للولد قبل أن يخلق ولده حتى، إذا) فرض أنه (خلق ولده وعقل) الأشياء، (وخلق الله سبحانه وتعالى له علما بما قام في قلب أبيه من) ذلك (الطلب، صار) ذلك الولد (مأمورا بذلك الطلب الذي قام بذات أبيه، ودام وجوده إلى وقت معرفة ابنه) .

[ ص: 152 ] فإن قيل: القائم بذات الأب العزم على الطلب، وتخيله، لا نفس الطلب; لأن وجود الطلب بدون من يطلب منه شيء محال، قلنا: المحال طلب تنجيزي لا معنوي، قائم بذات من هو عالم بوجود المطلوب منه، وأهليته، وكلامنا فيه، والعلم بهما كاف في اندفاع الاستحالة (فليعقل قيام الطلب الذي دل عليه قوله عز وجل فاخلع نعليك بذات الله) تعالى أزلا (ومصير موسى عليه السلام مخاطبا به) أي: بذلك الطلب (بعد وجوده) أي: بعد وجود السيد موسى (إذ خلقت له معرفة بذلك) الطلب (وسمع لذلك الكلام القديم) .

وسمع يتعدى باللام تارة، كما جرى عليه المصنف، ومثله سمع الله لمن حمده، وبلا لام أخرى، ومنه قد سمع الله قول التي تجادلك ، وهذا قول الأشعري، وأنكر الماتريدي سماعه الكلام النفسي، وعنده أنه سمع صوتا دالا على كلام الله تعالى، وقد تقدم الاختلاف فيه .

وفي التذكرة الشرقية لأبي نصر بن القشيري: فإن قيل: فهل تسمون كلام الله تعالى في الأزل أمرا ونهيا؟ قلنا: بلى، هو أمر بشرط وجود المأمور به، ونهي بشرط وجود المنهي. فإن قيل: فكيف يؤمر من هو معدوم؟ وكيف قال لموسى عليه السلام: فاخلع نعليك وهو بعد في كتم العدم؟ قلنا: إنما هو أمر بشرط الوجود، أي: إذا كنت وعقلت فافعل كذا; فالمأمور يدخل في الوجود، بعد ألا يكون موجودا; فالمتجدد عائد إليه، لا إلى كلام الباري سبحانه، وهذا كما أن الله سبحانه كان عالما بأن العالم سيكون، والآن فهو عالم بأن العالم كائن، ثم علمه لم يتغير، ولم يتجدد، بل تجدد المعلوم، ثم من يعتقد أن كلام الله تعالى غير قديم ليس يجوز عليه البقاء، فإذا أمر العبد بفعل فالفعل المأمور به غير موجود في حالة الأمر، فإذا وجدنا فالأمر غير موجود; لأنه عدم، فكيف يستبعدون هنا القول بأمر والمأمور معدوم وهم يصرحون بأمر والمأمور به معدوم؟! وقد أجمع المسلمون على أن موسى عليه السلام مخاطب الآن بقوله عز وجل فاخلع نعليك ، وهو الآن غير مكلف; فقد بان ما استبعدوا; فلا طائل تحته، وقد قال تعالى: ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك ، وبعد أهل النار لم يدخلوا، والمعنى سينادون، ولو أخبرنا بهذا بعد دخول أهل النار النار فالخبر أنهم قد نادوا، فكذلك لو أخبرنا عن حال موسى عليه السلام قبل وجوده; فالخبر سيقول لموسى: فاخلع نعليك ، وبعد موسى، فالخبر: قلنا لموسى: اخلع نعليك. فهذا الاختلاف لا يعود إلى نفس كلام الله عز وجل، فتفهم. اهـ .

وفي شرح العمدة للنسفي: فإن قيل: لو كان كلامه قديما لكان آمرا ناهيا في الأزل، وهو سفه، سواء كان عبارة عن الحروف والأصوات، أو عن المعنى القائم بالنفس، وهذا لأنه ما كان في الأزل مأمورا ولا منهيا، والأمر والنهي بدون حضور المأمور والمنهي سفه; فإن الواحد منا لو جلس في بيته وحده ويقول: يا زيد قم، ويا بكر اجلس، لكان سفها، فكيف يصح أن يقول في الأزل: فاخلع نعليك ، أو: خذ الكتاب بقوة ، وموسى ويحيى معدومان؟! قلنا: نعم، لو كان الأمر ليجب وقت الأمر، فأما الأمر ليجب وقت وجود المأمور، والنهي ليجب عليه الانتهاء عند وجوده، فهذا حكمه، ألا ترى أن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان أمرا ونهيا لمن كان موجودا ولمن يوجد إلى يوم القيامة؟ وكل من وجد وبلغ وعقل وجب عليه الإقدام على المأمور به، والانتهاء عن المنهي عنه بذلك الأمر والنهي، ولم يكن ممتنعا، كذا هنا .

فإن قيل: أخبر الله تعالى عن أمور ماضية، كقوله: وجاء إخوة يوسف ، إنا أرسلنا نوحا إلى قومه ، إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وهذا إنما يصح أن لو كان المخبر عنه سابقا على الخبر، فلو كان هذا الخبر موجودا في الأزل لكان الأزلي مسبوقا بغيره، وهو محال، ولو لم يكن المخبر عنه سابقا على الخبر لكان كاذبا; قلنا: إخبار الله تعالى لا يتعلق بزمان; لأنه أزلي، والمخبر عنه متعلق بالزمان، والتغير على المخبر عنه، لا على الإخبار الأزلي. اهـ .




الخدمات العلمية