الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وليس من شرط التوكل إخراج الكوز الذي يشرب منه ، والجراب الذي فيه زاده ، وإنما ذلك في المأكول ، وفي كل مال زائد على قدر الضرورة ؛ لأن سنة الله جارية بوصول الخير إلى الفقراء المتوكلين في زوايا المساجد وما جرت السنة بتفرقة الكيزان والأمتعة في كل يوم ، ولا في كل أسبوع ، والخروج عن سنة الله : عز وجل : ليس شرطا في التوكل ، ولذلك كان الخواص يأخذ في السفر الحبل والركوة والمقراض والإبرة دون الزاد لكن سنة الله تعالى جارية بالفرق بين الأمرين .

فإن قلت : فكيف يتصور أن لا يحزن إذا أخذ متاعه الذي هو محتاج إليه ، ولا يتأسف عليه ، فإن كان لا يشتهيه فلم أمسكه ، وأغلق الباب عليه ، وإن كان أمسكه ؛ لأنه يشتهيه لحاجته إليه فكيف لا يتأذى قلبه ولا يحزن ، وقد حيل بينه وبين ما يشتهيه فأقول : إنما كان يحفظه ليستعين به على دينه ؛ إذ كان يظن أن الخيرة له في أن يكون له ذلك المتاع ، ولولا أن الخيرة له فيه لما رزقه الله تعالى ، ولما أعطاه إياه ، فاستدل على ذلك بتيسير الله : عز وجل : وحسن الظن بالله تعالى مع ظنه أن ذلك معين له على أسباب دينه ، ولم يكن ذلك عنده مقطوعا به ؛ إذ يحتمل أن تكون خيرته في أن يبتلى بفقده ذلك حتى ينصب في تحصيل غرضه ، ويكون ثوابه في النصب والتعب أكثر ، فلما أخذه الله تعالى منه بتسليط اللص تغير ظنه ؛ لأنه في جميع الأحوال واثق بالله حسن الظن به ، فيقول : لولا أن الله : عز وجل : علم أن الخيرة كانت لي في وجودها إلى الآن والخيرة لي الآن في عدمها لما أخذها مني ، فبمثل هذا الظن يتصور أن يندفع عنه الحزن ؛ إذ به يخرج عن أن يكون فرحه بأسباب من حيث إنها أسباب ، بل من حيث إنه يسرها مسبب الأسباب عناية وتلطفا وهو كالمريض بين يدي الطبيب الشفيق يرضى بما يفعله فإن قدم إليه الغذاء فرح ، وقال : لولا أنه يعرف أن الغذاء ينفعني ، وقد قويت على احتماله لما قربه إلي ، وإن أخر عنه الغذاء بعد ذلك أيضا فرح ، وقال : لولا أن الغذاء يضرني ويسوقني إلى الموت لما حال بيني وبينه ، وكل من لا يعتقد لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الوالد المشفق الحاذق لعلم الطب ، فلا يصح منه التوكل أصلا ، ومن عرف الله تعالى ، وعرف أفعاله ، وعرف سنته في إصلاح عباده لم يكن فرحه بالأسباب فإنه لا يدري أي الأسباب خير له كما قال عمر رضي الله عنه لا أبالي أصبحت غنيا أو فقيرا فإني لا أدري أيهما خير لي ، فكذلك ينبغي أن لا يبالي المتوكل يسرق متاعه ، أو لا يسرق فإنه لا يدري أيهما خير له في الدنيا أو في الآخرة فكم من متاع في الدنيا يكون سبب هلاك الإنسان وكم من غني يبتلى بواقعة لأجل غناه ، يقول ياليتنى : كنت فقيرا .

التالي السابق


(وليس من شرط التوكل إخراج الكوز الذي يشرب منه، والجراب الذي) يحفظ (فيه زاده، وإنما ذلك في المأكول، وفي كل مال زائد على قدر الضرورة؛ لأن سنة الله تعالى جارية بوصول الخبز إلى الفقراء المتوكلين في زوايا المساجد) من حيث يحتسبون، ومن حيث لا يحتسبون، (وما جرت السنة بتفرقة الكيزان والأمتعة في كل يوم، ولا في كل أسبوع، والخروج عن سنة الله -عز وجل- ليس شرطا في التوكل، ولذلك كان) إبراهيم (الخواص) -رحمه الله تعالى- مع شدة مذهبه في الادخار (يأخذ [ ص: 510 ] في السفر الحبل والركوة والمقراض والإبرة) ، ويقول: هي من لوازم الدين (دون الزاد لكن سنة الله جارية في الفرق بين الأمر، فإن قلت: فكيف يتصور أن لا يحزن إذا أخذ متاعه الذي هو محتاج إليه، ولا يتأسف عليه، فإن كان لا يشتهيه فلم أمسكه، وأغلق الباب عليه، وإن كان أمسكه؛ لأنه يشتهيه لحاجته إليه فكيف لا يتأذى قلبه ولا يحزن، وقد حيل بينه وبين ما يشتهيه فأقول: إنما كان يحفظه ليستعين به على دينه؛ إذ كان يظن أن الخيرة له في أن يكون له ذلك المتاع، ولولا أن الخيرة له فيه لما رزقه الله تعالى، ولما أعطاه إياه، فاستدل على ذلك بتيسير الله -عز وجل- وحسن الظن بالله تعالى مع ظنه أن ذلك معين له على أسباب دينه، ولم يكن ذلك عنده مقطوعا به؛ إذ لا يحتمل أن تكون خيرته في أن يبتلى بفقده ذلك حتى ينصب) ، أو يتعب (في تحصيل غرضه، ويكون ثوابه في التعب والنصب أكثر، فلما أخذه الله تعالى منه بتسليط اللص تغير ظنه؛ لأنه في جميع الأحوال واثق بالله حسن الظن به، فيقول: لولا أن الله -عز وجل- علم أن الخيرة لي كانت في وجودها إلى الآن) ، فكانت في حيازتي، (والخيرة لي الآن في عدمها لما أخذها مني، فبمثل هذا الظن يتصور أن يندفع عنه الحزن؛ إذ به يخرج عن أن يكون فرحه بالأسباب من حيث إنها أسباب، بل من حيث إنه يسرها مسبب الأسباب عناية منه وتلطفا) وشفقة عليه ورحمة، (وهو كالمريض بين يدي الطبيب الشفيق) المحب لبقائه (يرضى بما يفعله) معه (فإن قدم إليه لغذاء فرح، وقال: لولا أنه يعرف أن الغذاء ينفعني، وقد قويت على احتماله لما قربه إلي، وإن أخر عنه الغذاء بعد ذلك أيضا فرح، وقال: لولا أن الغذاء يضرني ويسوقني إلى الموت لما حال بيني وبينه، وكل ما لا يعتقد في لطف الله تعالى) وعنايته به (ما يعتقده المريض في الوالد المشفق الحاذق بعلم الطب، فلا يصح منه الترك أصلا، ومن عرف الله تعالى، وعرف أفعاله، وعرف سنته في إصلاح عباده لم يكن فرحه بالأسباب فإنه لا يدري أي الأسباب خير له) فهي بمنزلة النجوم مسخرات له بأمره (قال عمر -رضي الله عنه- لا أبالي أصبحت غنيا، أو فقيرا، فإني لا أدري أيهما خير لي) ، وقد سبق (فكذلك ينبغي أن لا يبالي المتوكل يسرق متاعه، أو لا يسرق فإنه لا يدري أيهما خير له في الدنيا أو في الآخرة فكم من متاع في الدنيا يكون سبب هلاك الإنسان) ، ولولاه لما هلك (وكم من غني يبتلى بواقعه لأجل غناه، يقول: يا ليتني كنت فقيرا) فالخيرة لله سبحانه في سائر الأحوال .




الخدمات العلمية