الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأصل الخامس .

العلم بأنه : تعالى سميع بصير لا يعزب عن رؤيته هواجس الضمير ، وخفايا الوهم والتفكير ولا يشذ عن سمعه صوت دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء وكيف لا يكون سميعا بصيرا والسمع والبصر كمال لا محالة وليس بنقص ؟! فكيف يكون المخلوق أكمل من الخالق ، والمصنوع أسنى وأتم من الصانع ؟! وكيف تعتدل القسمة مهما وقع النقص في جهته ، والكمال في خلقه وصنعته ؟! أو كيف تستقيم حجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم على أبيه إذ كان يعبد الأصنام جهلا وغيا فقال له لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ولو انقلب ذلك عليه في معبوده لأضحت حجته داحضة ودلالته ساقطة ولم يصدق قوله تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه وكما عقل كونه فاعلا بلا جارحة وعالما بلا قلب ودماغ فليعقل كونه بصيرا بلا حدقة وسميعا بلا أذن إذ لا فرق بينهما .

التالي السابق


ثم قرر ما تضمنه الأصل الرابع بما قد ذكرناه في أثناء كلام المصنف قريبا، وأما ما تضمنه الأصل الثامن والتاسع فسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى .

(الأصل الخامس: أنه تعالى سميع بصير) ، بلا جارحة وحدقة، ولا أذن، كما أنه تعالى عليم بلا دماغ، ولا قلب، فليس سمعه كسمع المخلوق الذي هو قوة مودعة في مقعر الصماخ، يتوقف إدراكها للأصوات على حصول الهواء الموصل إلى الحاسة، وتأثر الحاسة، ولا كبصر المخلوق الذي هو قوة مودعة في العصبتين المجوفتين الخارجتين من الدماغ، بل المراد بالسمع صفة وجودية قائمة بالذات، شأنها إدراك كل مسموع، وإن خفي، والمراد بالبصر صفة وجودية قائمة بالذات، شأنها إدراك كل مبصر وإن لطف، وقد أشار المصنف إلى ذلك، فقال -على طريق اللف والنشر غير مرتب-: (لا يعزب) أي: لا يغيب (عن رؤيته هواجس الضمير، وخفايا الوهم) ، والهاجس: ما يخطر بالبال، والوهم بمعناه (والتفكير) ، أي: ما خفي عنه، وهو مصدر فكره مشددا [ ص: 143 ] إذا أورده في فكره .

وقال المصنف في المقصد الأسنى: البصير هو الذي يشاهد ويرى، حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى، مع التنزيه عن أن يكون بحدقة وأجفان، والتقديس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان; فإن ذلك من التغير والتأثر المقتضي للحدثان، وإذا نزه عن ذلك كان البصر في حقه عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات، وذلك أوضح وأجلى مما تفهمه من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات .

(ولا يشذ) أي: لا ينفرد ولا يبعد (عن سمعه) مسموع، وإن خفي، فسيسمع السر والنجوى، بل ما هو أرق من ذلك وأخفى، يسمع (صوت دبيب) أي: حركة أرجل (النملة) الصغيرة المسماة بالذرة، ثم وصفها وقال (السوداء) ; لأنها إذا كانت كذلك كانت أشد في الخفاء (في الليلة الظلماء) الشديدة السواد (على الصخرة الصماء) ، الملساء، بغير أصمخة وآذان، منزه سمعه من أن يتطرق إليه الحدثان، ومهما نزهت السميع عن تغير يعتريه عند حدوث المسموعات، وقدسته عن أن يسمع بآذان أو آلة، علمت أن السمع في حقه عبارة عن صفة ينكشف بها أكمل صفات المسموعات، ومن لم يدقق نظره فيه وقع بالضرورة في محض التشبيه، فخذ منه حذرك، ودقق فيه نظرك. قاله المصنف في المقصد الأسنى .

ثم اعلم أن ثبوت صفتي السمع والبصر بالسمع، فقد ورد وصفه تعالى بهما فيما لا يكاد يحصى من الكتاب والسنة، وهو مما علم ضرورة من دينه صلى الله عليه وسلم; فلا حاجة بنا إلى الاستدلال عليه كسائر ضروريات الدين .

ومع ذلك فقد استدل عليه المصنف وقال: (وكيف لا يكون سميعا بصيرا والسمع والبصر صفتا كمال) ، وقد اتصف بهما مخلوق (وليس بنقص؟!) فهو تعالى أحق بالاتصاف بهما من المخلوق، وقد أشار إلى ذلك بقوله: (فكيف يكون المخلوق أكمل من الخالق، والمصنوع أسنى) أي: أرفع (وأتم من الصانع؟! وكيف تعتدل القسمة مهما وقع النقص في جهته، والكمال في خلقه وصنعته؟!) هذا لا يتصوره عاقل، وفي هذا الاستدلال الذي ذكره المصنف اختلفت عباراتهم، ولكن المآل إلى ما ذكره، قال أبو القاسم القشيري في كتابه الاعتقاد والدليل عليه: إنهما صفتا مدح في ثبوتهما نفي نقص، لا ينتفي ذلك النقص إلا بهما، والإله سبحانه وتعالى مستحق لأوصاف الكمال .

وقال ابن فورك في المدخل الأوسط: الدليل عليه أنه تعالى موجود حي لا تليق به الآفات التي تضاد السمع والبصر، وكل حي ليس به آفة تضاد السمع والبصر فهو سميع بصير .

وقال إمام الحرمين في لمع الأدلة: إذ قد ثبت كونه حيا، والحي لا يخلو عن الاتصاف بالسمع والبصر والكلام، وأضدادها، وأضداد هذه الصفات نقائص، والرب يتقدس عن سمات النقص .

وقال ابن القشيري في التذكرة الشرقية: إذ لو لم يتصف بهما لاتصف بضدهما، وقد وجدنا الحي فيما بيننا يجوز أن يكون سميعا بصيرا، ولم نجد لقول السمع والبصر علة إلا كونه حيا; فعلمنا أن كل حي قابل للسمع والبصر، والباري تعالى حي، فهو إذا قابل للسمع والبصر، فلو لم يتصف بهما لاتصف بضدهما; لأن كل ذات قبلت معنى، ولذلك المعنى ضد استحال خلوه عن ذلك المعنى وعن ضده، وفيه احتراز عن الحركة والسكون، وبيان مراعاة العلل دون اعتبار مجرد الشاهد في حكم الغائب .

وقال شيخ مشايخنا في إملائه: لو لم يكن سميعا بصيرا لكان أصم أعمى، وذلك نقص، والنقص عليه تعالى محال; لاحتياجه إلى من يكمله، وذلك يستلزم حدوثه .

وقال البكي في شرح الحاجبية: أما كونه سميعا بصيرا فقد اتفق عليه أهل السنة .

أما الأشعري فيقول: قد ثبت أن الباري تعالى عالم مريد حي، وكل حي سميع، أو قابل لذلك، والواجب لا يتصف بالقبول، بل كل ما يجوز له فهو واجب له، وأيضا فإنهما صفتا كمال، والخلو عنهما نقص، أو قصور في الكمال، وأيضا قد أجمعت عليه الكتب السماوية، وخصوصا القرآن، وهذا دليل المحدث .

وأما الصوفي فيقول: حديث التقرب بالنوافل بين لكل من هو إلى عبوديته واصل أن السميع والبصير هو الله فقط .

ثم أشار المصنف -رحمه الله تعالى- إلى أن عدم السمع والبصر نقص في المعبود، وأيده بقوله: (أو كيف تستقيم حجة) سيدنا (إبراهيم) الخليل (صلى الله عليه وعلى [ ص: 144 ] نبينا وسلم) على أبيه آزر، كما هو نص القرآن، أو هو تأرخ، كما هو قول النسابة، وآزر عمه، واستعمال الأب على العم شائع في الاستعمال (إذ كان) أي: آزر (يعبد الأصنام) ، والتماثيل (جهلا) منه (وغيا) عن طريق الرشد، (فقال له) إبراهيم عليه السلام، كما حكي عنه في الكتاب العزيز: يا أبت ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) ، فأفاد أن هذه صفات لا يليق بالمعبود أن يسلبها (ولو انقلب ذلك عليه في معبوده) ، بحيث سلبت عنه تلك الصفات (لأضحت حجته) التي احتج بها على خصمه (ودلالته) التي استدل بها في تحقيق مقصوده (ساقطة) في حد ذاتها، ولم تكن ملزمة له أصلا، (و) إذا (لم يصدق قوله تعالى) في قصته: ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) نرفع درجات من نشاء الآية، والفرق بين الحجة والبينة قد تقدم في أول الكتاب .

ثم أشار بالرد على من زعم أن إثبات صفتي السمع والبصر يستدعي حدقة وأذنا، فقال: (وكما عقل كونه) عز وجل (فاعلا) مختارا (بلا جارحة) من الجوارح (وعالما بلا قلب ودماغ) ، وإنما ذكرهما جميعا لما أن علم المخلوق قد اختلف في محله، أهو الدماغ أو القلب؟ فجمع بين القولين (فليعقل كونه) تعالى (بصيرا بلا حدقة) ، وهي - محركة- التي فيها إنسان العين، ويجمع على أحداق (وسميعا بلا أذن) بضمتين، وجمعه آذان، (إذ لا فرق بينهما) إذا تأملت حق التأمل .




الخدمات العلمية