الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان فضيلة التوكل .

أما من الآيات فقد قال تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين وقال : عز وجل وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقال سبحانه وتعالى : إن الله يحب المتوكلين وأعظم بمقام موسوم بمحبة الله تعالى صحبه ومضمون كفاية الله تعالى ملابسه فمن الله تعالى حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه فقد فاز الفوز العظيم فإن المحبوب لا يعذب ولا يبعد ولا يحجب وقال تعالى : أليس الله بكاف عبده فطالب الكفاية من غيره والتارك للتوكل هو المكذب لهذه الآية .

فإنه سؤال في معرض استنطاق بالحق كقوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وقال عز وجل : ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم أي : عزيز لا يذل من استجار به ولا يضيع من لاذ بجنابه والتجأ إلى ذمامه وحماه وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره .

وقال تعالى : إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم بين أن كل ما سوى الله تعالى عبد مسخر .

حاجته مثل حاجتكم فكيف يتوكل عليه .

؟ وقال تعالى : إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه وقال عز وجل : ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون وقال عز وجل يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه .

وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد فهو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار والتوكل على الواحد القهار .

التالي السابق


(بيان فضيلة التوكل )

ولواحقه التفويض والتسليم والثقة والرضا (أما من الآيات) القرآنية (فقد قال الله تعالى: وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) فمع شرفه قد أوجبه على سائر المؤمنين; لأن الإيمان يوجب على المؤمن مدلوله ومدلولات الإيمان هي الناشئة عن نفس الإيمان بحسب الملاحظات، فمن لاحظ عن زيد أنه قائم بالأمر عول عليه واعتمد على كفايته، وإن لاحظ مع كونه قائما بالأمر أنه حكيم في عمله وأفعاله فيما يقدم ويؤخر وفيما يرفع ويخفض سلم الأمر إليه واستسلم لحكمه; لأن التفويض معناه ترك اختيار العبد لحسن اختيار الله له، والاستسلام هو انقياد العبد وإذعانه لما اختاره الله له وبما حكم به عليه من الأمر والنهي، وملازمة الحدود التي حدها له .

وإن لاحظ مع ذلك كمال صدقه ووفاء وعده وثق به; لأن الثقة نتيجة التصديق ومعناه الربط على القلب وعدم الانفصام على ما حواه من التصديقات، فالثقة إذا على هذا مكملة لجميع المقامات والأحوال، لهذا قال أبو إسماعيل الهروي: الثقة سواد عين التوكل ونقطة دائه التفويض وسويداء قلب التسليم.وإن لاحظ بعد ذلك ألوهيته مال إليه بوجهه وانصرف إليه بكليته، وإن لاحظ المعنى الجامع لصفات ألوهيته هو المعبر عنه بقولك: الله، حصل الدهش والتحير، فهكذا ينبغي أن يفهم ملاحظة مدلولات الإيمان .

وقال صاحب القوت: وقد أمر الله بالتوكل وقرنه بالإيمان ليدل بذلك أنهما شيئان، إذ التوكل على الوكيل هو من الإيمان بالمؤمن; لأنه عن حقيقة الإيمان وهو اليقين، وبمشاهدة الوكيل وهو الحسب الحسيب ونعم الوكيل فأمر بالتوكل قولا وفعلا بعد الإخبار عن محبته للمتوكل عليه فقال تعالى: قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا مع اشتراط التوكل للإيمان بعد الأمر به في قوله تعالى: وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين وفي قوله: إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فلم يخرج عموم المسلمين من شرط عموم التوكل كما لم يخرج خصوص المؤمنين من شرط وجود الإسلام، وكما كل مؤمن حقا مسلم لا بد عملا، كذلك كل مسلم صدقا يكون على الله متوكلا فقد صار المتوكل من عباد الرحمن الذين أضافهم إلى وصف الرحمة ومن عباد التخصيص الذين ضمن لهم الكفاية وهم الذين وصفهم في الكتاب بالهون والسكينة ونعتهم بالسلامة والخوف وذكرهم بالسجود والقيام ومدحهم بالاقتصاد والقوام في قوله تعالى: وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا إلى آخر الآيات .

(وقال - عز وجل - وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) فرفع المتوكلين إليه وجعل مزيدهم منه (وقال تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) أي: كافيه عمن سواه (وقال تعالى: إن الله يحب المتوكلين ) فجعل المتوكل حبيبه وألقى عليه محبته (فأعظم بمقام موسوم بمحبة الله تعالى صاحبه ومضمون بكفاية الله ملابسه فمن) كان (الله حسبه وكافيه ومحبه ومراعيه) فهو شافيه ومعافيه فلا تسأل عما هو فيه (فقد) تناهى من كان بهذا الوصف في حسن المراعاة و (فاز الفوز العظيم) الأبدي المقيم (فإن المحبوب) المراعى (لا يعذب) بنار الفراق (ولا يبعد) عن حضرة الوصال (ولا يحجب) عن المشاهدة (و) هذا الذي (كفاه في هذه الدار المهمات ووقاه بتفويض أمره إليه السيئات كما قال تعالى: أليس الله بكاف عبده ) مع قوله: وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا .

(وطالب الكفاية عن غيره هو التارك للتوكل وهو المكذب لهذه الآية فإنه سؤال في معرض استنطاق بالحق كقوله تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ) قال أبو يعقوب السوسي: أول التوكل المعرفة بالوكيل وأنه عزيز حكيم يعطي لعزته ويمنع بحكمته فيصبر العبد لعزه ويرضى بحكمه ويستسلم لحكمته، كذلك أخبر عن نفسه ونبه المتوكلين عليه إذ (قال تعالى: ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم أي: عزيز لا يذل من استجار به ولا يضيع من لاذ بجنابه [ ص: 387 ] والتجأ إلى ذمامه وحماه وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره) وفي القوت: عزيز يعز عن الذل لعباده حكيم يعلم من حكمته فيغنيه عن التعلم من خلقه .

(و) لما أيقن المتوكل أن بيد الوكيل ملكوت كل شيء وأنه يملك السمع والبصر ويقلب القلوب والأبصار بتقليب الليل والنهار، فك أسره من الوثاق فترك دعاء مثله من العباد واعتزلهم وذهب إلى ربه فهداه وعمن سواه أغناه إذ سمع ما (قال تعالى: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) وقال تعالى: إني ذاهب إلى ربي سيهدين وقال تعالى: فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له (بين أن كل ما سوى الله تعالى عبد مسخر حاجته مثل حاجتكم فكيف يتوكل عليه؟ وقال تعالى: إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه ) فطلب الرزق من حيث العبادة فكان المعبود هو الرزاق .

(و) إذا شهد العبد به قائما بالقسط والتدبير قيوما بالتصريف والمقادير عنده خزائن كل شيء غابت الرسوم في نور شهادة الواحد القيوم، ثم شهد الوكيل قابضا على نواصي المماليك والموكلين بالأسباب ورأى عنده خزائن السماوات والأرض ارتقى في الأسباب إلى العزيز الوهاب كما (قال تعالى: ولله خزائن السماوات والأرض ) فغابت خزائن الأرض من الأيدي والقلوب والأسباب في خزائن السماء من الأقدار والأحكام والأبواب وغابت الخزائن السمائيات في ملكوت القبضة وعزة القدرة فمن خزائن السماوات ما حكمه من الأقسام والأرزاق ومن خزائن الأرض ما رسمه من الإعلام والإرفاق ثم قال تعالى: ( ولكن المنافقين لا يفقهون ) وذلك لقولهم: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا فشهدوا أن الخلق ينفقون فمنعوهم من الإعطاء فرد الحق شهادتهم وأضاف الخزائن والعطاء إليه ووصفهم معطين النفقة عنه، (وقال تعالى) : ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه .

وغير ذلك من الآيات وهي كثيرة .

(وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد فهو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار والتوكل على الواحد القهار .




الخدمات العلمية