بيان علامات الزهد .
اعلم أنه قد يظن أن تارك المال زاهد وليس كذلك .
فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد فكم من الرهابين من ردوا أنفسهم كل يوم إلى قدر يسير من الطعام ولازموا ديرا لا باب له وإنما مسرة أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له فذلك لا يدل على الزهد دلالة قاطعة بل لا بد من الزهد في المال والجاه جميعا حتى يكمل الزهد في جميع حظوظ النفس من الدنيا بل قد يدعي جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة كما قال الخواص في وصف المدعين إذ قال : وقوم ادعوا الزهد ولبسوا الفاخر من اللباس يموهون بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم لئلا ينظر إليهم بالعين التي ينظر بها إلى الفقراء فيحتقروا فيعطوا كما تعطى المساكين ، ويحتجون لنفوسهم باتباع العلم وأنهم على السنة وأن الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها وإنما يأخذون بعلة غيرهم .
هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادعوها حالا لهم فهم مائلون إلى الدنيا متبعون الهوى .
فهذا كله كلام رحمه الله فإذا معرفة الزهد أمر مشكل بل حال الزهد على الزاهد مشكل . الخواص
وينبغي أن يعول في باطنه على ثلاث علامات العلامة الأولى أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود كما قال تعالى : لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم بل ينبغي أن يكون بالضد من ذلك وهو أن يحزن بوجود المال ويفرح بفقده العلامة الثانية : أن يستوي عنده ذامه ومادحه فالأول والثاني علامة الزهد في المال العلامة الثالثة : أن يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة إما محبة الدنيا وإما محبة الله وهما في القلب كالماء والهواء في القدح فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان وكل من أنس بالله اشتغل به ولم يشتغل بغيره ولذلك قيل لبعضهم إلى ماذا أفضى بهم الزهد ؟ فقال إلى الأنس بالله فأما الأنس بالدنيا وبالله فلا يجتمعان . علامة الزهد في الجاه
وقد قال أهل المعرفة إذا تعلق الإيمان بظاهر القلب أحب الدنيا والآخرة جميعا وعمل لهما وإذا بطن الإيمان في سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا فلم ينظر إليها ولم يعمل لها ولهذا ورد في دعاء آدم عليه السلام : اللهم إني أسألك إيمانا يباشر قلبي .
وقال أبو سليمان من شغل بنفسه شغل عن الناس ، وهذا مقام العاملين ومن شغل بربه شغل عن نفسه ، وهذا مقام العارفين .
والزاهد لا بد وأن يكون في أحد هذين المقامين ومقامه الأول أن يشغل نفسه بنفسه وعند ذلك يستوي عنده المدح والذم والوجود والعدم ولا يستدل بإمساكه قليلا من المال على فقد زهده أصلا .
قال ابن أبي الحواري قلت لأبي سليمان أكان زاهدا ؟ قال : نعم ، قلت : قد بلغني أنه ورث عن أبيه عشرين دينارا فأنفقها في عشرين سنة فكيف كان زاهدا وهو يمسك الدنانير ؟ فقال : أردت منه أن يبلغ حقيقة الزهد وأراد بالحقيقة الغاية فإن الزهد ليس له غاية لكثرة صفات النفس . داود الطائي
ولا يتم الزهد إلا بالزهد في جميعها فكل من ترك من الدنيا شيئا مع القدرة عليه خوفا على قلبه وعلى دينه فله مدخل في الزهد بقدر ما تركه وآخره أن يترك كل ما سوى الله حتى لا يتوسد حجرا كما فعله المسيح : عليه السلام : فنسأل الله تعالى أن يرزقنا من مباديه نصيبا وإن قل فإن أمثالنا لا يستجرئ على الطمع في غاياته وإن كان قطع الرجاء عن فضل الله غير مأذون فيه . وإذا لاحظنا عجائب نعم الله تعالى علينا علمنا أن الله تعالى لا يتعاظمه شيء فلا بعد في أن نعظم السؤال اعتمادا على الجود المجاوز لكل كمال .
فإذا علامة الزهد استواء الفقر والغنى والعز والذل والمدح والذم وذلك لغلبة الأنس بالله .