الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وبالجملة فلا أمان منها إلا عند الترك بالإضافة إلى ما ترك فقط ، وذلك عند القدرة . قال ابن أبي ليلى لابن شبرمة ألا ترى إلى ابن الحائك هذا لا نفتي في مسألة إلا رد علينا يعني أبا حنيفة فقال ابن شبرمة : لا أدري أهو ابن الحائك أم ما هو ؟ لكن اعلم أن الدنيا غدت إليه فهرب منها وهربت منا فطلبناها وكذلك قال جميع المسلمين على عهد رسول الله : صلى الله عليه وسلم : إنا نحب ربنا ولو علمنا في أي شيء محبته لفعلناه حتى نزل قوله تعالى : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم .

قال ابن مسعود رحمه الله قال لي رسول الله : صلى الله عليه وسلم : أنت منهم يعني من القليل قال وما عرفت أن فينا من يحب الدنيا حتى نزل قوله تعالى : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة واعلم أنه ليس من الزهد ترك المال وبذله على سبيل السخاء والفتوة ، وعلى سبيل استمالة القلوب وعلى ، سبيل الطمع ، فذلك كله من محاسن العادات ، ولكن لا مدخل لشيء منه في العبادات ، وإنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة ، فأما كل نوع من الترك فإنه يتصور ممن لا يؤمن بالآخرة ، فذلك قد يكون مروءة وفتوة وسخاء وحسن خلق ، ولكن لا يكون زهدا إذ حسن الذكر وميل القلوب من حظوظ العاجلة وهي ألذ وأهنأ من المال ، وكما أن ترك المال على سبيل السلم طمعا في العوض ليس من الزهد فكذلك تركه طمعا في الذكر والثناء والاشتهار بالفتوة والسخاء واستثقالا له لما في حفظ المال من المشقة والعناء .

والحاجة إلى التذلل للسلاطين والأغنياء ليس من الزهد أصلا ، بل هو استعجال حظ آخر للنفس بل الزاهد من أتته الدنيا راغمة صفوا عفوا وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه ، وقبح اسم ولا فوات حظ للنفس فتركها خوفا من أن يأنس بها فيكون آنسا بغير الله ومحبا لما سوى الله ويكون مشركا في حب الله تعالى غيره .

أو تركها طمعا في ثواب الله في الآخرة فترك التمتع بأشربة الدنيا طمعا في أشربة الجنة ، وترك التمتع بالسراري والنسوان طمعا في الحور العين ، وترك التفرج في البساتين طمعا في بساتين الجنة وأشجارها ، وترك التزين والتجمل بزينة الدنيا طمعا في زينة الجنة ، وترك المطاعم اللذيذة طمعا في فواكه الجنة ، وخوفا من أن يقال له : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ، فآثر في جميع ذلك ما وعد به في الجنة على ما تيسر له في الدنيا عفوا وصفوا لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى وأن ما سوى هذا فمعاملات دنيوية لا جدوى لها في الآخرة أصلا .

التالي السابق


(وبالجملة فلا أمان منها إلا عند الترك بالإضافة إلى ما ترك فقط، وذلك عند القدرة. قال ابن أبي ليلى) هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيئ الحفظ جدا مات سنة ثمان وأربعين روى له أصحاب السنن (لابن شبرمة) هو عبد الله بن شبرمة بن الطفيلي بن حسان الضبي، أو شبرمة الكوفي القاضي ثقة فقيه مات سنة أربع وأربعين، روى له البخاري في صحيحه تعليقا ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه (ألا ترى إلى هذا ابن الحائك لا نفتي في مسألة إلا رد علينا يعني أبا حنيفة) الإمام - رحمه الله تعالى - (فقال ابن شبرمة: لا أدري أهو ابن الحائك أم ما هو؟ لكن اعلم أن الدنيا غدت) أي: صارت (إليه فهرب منها) كأنه يعني القضاء (وهربت منا فطلبناها) فإن كلا منهما تولى قضاء الكوفة وأباها الإمام، وضرب وامتحن لذلك، ولقد أنصف ابن شبرمة في جوابه، وأما ابن ليلى فكان يحسد الإمام دائما ويعاديه لما يرى له من القدر والمنزلة عند الخاص والعام، سامح الله عن الجميع وجعلهم إخوانا على سرر متقابلين، (ولذلك قال جميع المسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا نحب ربنا ولو علمنا في أي شيء محبته لفعلناه حتى نزل قوله تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم قال ابن مسعود) [ ص: 323 ] - رضي الله عنه - (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنت منهم يعني من القليل) .

قال العراقي: لم أقف له على أصل. اهـ .

قلت: سياق هذه العبارة في القوت قال: وقد كان الناس مستورين بإظهار الزهد في البقاء ومظنونا بهم حب الباقي الأعلى حتى نزلت ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله الآية، وحتى نزل يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كانوا قالوا: إنا نحب الله ربنا، ولو علمنا في أي شيء محبته لفعلناه، فلذلك قال: كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون * إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وكذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم قال ابن مسعود قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قليل فأنت منهم، أي: من القليل الذي كان يفعل ذلك. اهـ .

ففي سياق المصنف سقط ظاهر يبينه سياق القوت ولذلك قال العراقي: لم أقف على أصل، أي: لا أصل لهذه القصة في نزول قوله تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم الآية. وسياق صاحب القوت صحيح، فروى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال فنعمل به، فأخبر نبيه أن أحب الأعمال إيمان بالله لا شك فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره، فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط قال: كان عبد الله بن رواحة مع نفر من أصحابه يذكرون الله تعالى فهشوا للذكر واشتاقوا، فقالوا: لو نعلم الذي هو أحب إليك فعلناه فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله: "مرصوص"، فلما كان يوم مؤتة وكان ابن رواحة أحد الأمراء نادى في القوم: يا أهل المجلس الذين وعدتم ربكم قولكم: لو نعلم الذي هو أحب إليك فعلنا، ثم تقدم فقاتل حتى قتل.

وروى عبد بن حميد، وابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية عند قولهم: والله لو نعلم أحب الأعمال لفعلناه، فدلهم على أحب الأعمال إليه، وروى ابن المنذر وابن عساكر عن مجاهد قال: نزلت في نفر من الأنصار منهم عبد الله بن رواحة قالوا في مجلس لهم: لو نعلم أي عمل أحب إلى الله لعملناه حتى نموت، فقال ابن رواحة: لا أبرح حبيسا حتى أموت فقتل شهيدا، ورواه مالك في تفسيره عن زيد بن أسلم نحوه، وروى ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: قال المؤمنون: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به، فدلهم على أحب الأعمال فقال: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا فبين لهم فابتلوا يوم أحد بذلك فولوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مدبرين فأنزل الله تعالى في ذلك يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون .

(وقال) ابن مسعود أيضا (ما عرفت أن فينا من يحب الدنيا حتى نزل قوله تعالى: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) ولفظ القوت: ما أحسب أن فينا أحدا يريد الدنيا حتى نزلت. وقال العراقي: رواه البيهقي في الدلائل بإسناد حسن .

(واعلم أنه ليس من الزهد ترك المال وبذله على سبيل السخاء والجود والفتوة، وعلى سبيل استمالة القلوب، ولا على سبيل الطمع، فذلك كله من محاسن العادات، ولكن لا مدخل لشيء منه في العبادات، وإنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة إلى نفاسة الآخرة، فأما كل نوع من الترك فأنه يتصور ممن لا يعرف بالآخرة، فذلك قد يكون مروءة وفتوة وسخاء وحسن خلق، ولكن لا يكون زهدا إذ حسن الذكر) والثناء الطيب (وميل القلوب) إليه بالمحبة (من حظوظ العاجلة) أي: الدنيا (وهي ألذ وأهنأ من المال، وكما أن ترك المال على سبيل السلم طمعا في العوض ليس من الزهد فكذلك تركه طمعا في الذكر والثناء والاشتهار بالفتوة والسخاء) والبذل (واستثقالا له لما في حفظ المال من المشقة والعناء، والحاجة إلى التذلل للسلاطين والأغنياء ليس من الزهد أصلا، بل هو استعجال حظ آخر للنفس) في الدنيا، ولفظ القوت: من جاد بملكه لله كان زاهدا فيه لوجه الله ووقع أجره على الله، ومن جاد بماله لأجل الناس كان أيضا زاهدا في ذلك موصوفا [ ص: 324 ] بالسخاء، ولكن ذلك لنفسه ولأجل هواه فهو موصوف بظاهر المروءة، وبمعنى الفتوة ولا أجر له إذا لم يكن من عمال الله فبطل أجره; لأنه عمل لأجل نفسه لا لوجه ربه، وحصل في الدنيا شكره وذكره تعويضا له من حرث الآخرة; لأن هذا حرث الدنيا فلم يكن له في الآخرة أضعاف كثيرة، وهذا هو الربا الذي أربى في أموال الناس; لأنه عمل لأجل الناس ففني نصيبه مما كسب، وذهب خلاقه في الآخرة، إذ لم يحتسبه لفناء الدنيا وأهلها; لأنه عمل لأجلهم وطلب ما عندهم من الذكر والثناء منهم، والباقيات الصالحات ما يراد به الباقي يبقى ببقائه لصالحي أوليائه .

وكان ابن مالك يقول: ما رأيت من الفتوة والقراءة فرقا إلا في شيء وأنه ما حظرت القراءة شيئا إلا قبحته الفتوة، وإنما يفترقان في أن القراءة يراد بها وجه الله والفتوة يراد بها وجوه الناس ومدحهم، وقد كان أستاذنا سفيان الثوري يقول: من لم يحسن يتفتى لم يحسن يتقرى، أي: من لم يعرف أحكام التفتي فيقوم به، ويصبر عليه ويراعي حسن الأدب فيه حتى يستحق وصف فتى لم يحكم أوصاف التقري، ولم يقم بحسن الرعاية فيه حتى يوصف بأنه قارئ .

(بل الزاهد من أتته الدنيا راغمة صفوا عفوا وهو قادر على التنعم بها من غير) مانع (من نقصان جاه، وقبح اسم) بسببها (ولا فوات حظ للنفس فتركها خوفا من أن يأنس بها) ويحبها (فيكون آنسا بغير الله ومحبا لما سوى الله ويكون مشركا في حب الله غيره، أو تركها طمعا في ثواب الله في الآخرة فترك التمتع بأشربة الدنيا طمعا في أشربة الجنة، وترك التمتع بالسراري والنسوان طمعا في الحور العين، وترك التفرج في البساتين طمعا في بساتين الجنة وأشجارها، وترك التزين والتجمل بزينة الدنيا طمعا في زينة الجنة، وترك المطاعم اللذيذة طمعا في فواكه الجنة، وخوفا من أن يقال له: أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها، فآثر في جميع ذلك ما وعد به في الجنة على ما تيسر له في الدنيا عفوا صفوا) من غير تعب (لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى) وما يفنى آخره كأنه لم يكن، وما يبقى آخره كأنه لم يزل، (وإن ما سوى هذا فمعاملات دنياوية لا جدوى لها في الآخرة أصلا) والله الموفق .



(تنبيه)

اعلم أن الزهد على قسمين: مراد لذاته وهو الزهد فيما سوى الله تعالى من كل ما يشغل عن عين الشهود، وهو من عقود الإيمان بالله لتعلقه بالجلال والكمال، ومراد لغيره ما يحث على الفراغ لأوقات الواجبات وهو لعمري سبب لإقامة الإخلاص الذي هو شرط في صحة العبادات فلا يقدر على ترك جملة من الشرور الظاهرة والباطنة إلا بترك الدنيا، إلا أن ما ينهى عنه لغيره غير ما ينهى عنه لأجل نفسه، والمباحات نهي عنها لأدائها إلى ما ذكرنا في الغالب .

ومن أهل التمكين من يعطى قوة يدير بها العالمين ولا يشغله شيء عن الله، فمنهم من وصل إلى هذا المقام الشريف بالكسب والاجتهاد، وهو المسمى مريدا، ومنهم من وصل إليه بنفس نفح الرحمة في كشف الحجاب عن قلبه حتى وقف على حقيقة الأمر بغير مدافع ولا منازع، وهو المسمى عند القوم مرادا، وكل منهما مراد إلا أن هذا مراد بوسائط كثيرة، وهذا مراد بغير واسطة .

وقد أخبر الله عن كلا الحالين فقال: الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وينبغي أن يجري بينهما الخلاف الجاري في التفاصيل بين أفاضل المؤمنين وأفاضل الملائكة لمناسبة الجذب والترقي، هذا إذا اتحدت المعرفتان، فإن اختلفتا كانت الفضيلة على حسب المعرفة فافهم، والله أعلم .




الخدمات العلمية