وأما الخاتمة الثانية التي هي دون الأولى وليست مقتضية للخلود في النار فلها أيضا سببان : .
أحدهما : وإن قوي الإيمان ، والآخر كثرة المعاصي وإن قلت المعاصي وذلك ؛ لأن مقارفة المعاصي سببها غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الإلف والعادة . ضعف الإيمان
وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه عند موته ، فإن كان ميله الأكثر إلى الطاعات كان أكثر ما يحضره ذكر طاعة الله وإن كان ميله الأكثر إلى المعاصي غلب ذكرها على قلبه عند ، الموت فربما تقبض روحه عند غلبة شهوة من الشهوات الدنيا ومعصية من المعاصي فيتقيد بها قلبه ويصير محجوبا عن الله تعالى فهو أبعد عن هذا الخطر ، والذي لم يقارف ذنبا أصلا فهو بعيد جدا عن هذا الخطر ، فالذي لا يقارف الذنب إلا الفينة بعد الفينة فهذا الخطر عظيم في حقه جدا ، ونعرف هذا بمثال وهو أنه لا يخفى عليك أن الإنسان يرى في منامه جملة من الأحوال التي عهدها طول عمره حتى إنه لا يرى إلا ما يماثل مشاهدته في اليقظة وحتى إن المراهق الذي يحتلم لا يرى صورة الوقاع إذا لم يكن قد واقع في اليقظة ولو بقي كذلك مدة لما رأى عند الاحتلام صورة الوقاع ثم لا يخفى أن الذي قضى عمره في الفقه يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء أكثر مما يراه التاجر الذي قضى عمره في التجارة والتاجر يرى من الأحوال المتعلقة بالتجارة وأسبابها أكثر مما يراه الطبيب والفقيه ؛ لأنه إنما يظهر في حال النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والموت شبه النوم ولكنه فوقه ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فيقتضي ذلك تذكر المألوف وعوده إلى القلب ، وأحد الأسباب المرجحة لحصول ذكره في القلب طول الإلف فطول الإلف بالمعاصي والطاعات أيضا مرجح وكذلك تخالف أيضا منامات الصالحين منامات الفساق فتكون غلبة الإلف سببا ؛ لأن تتمثل صورة فاحشة في قلبه وتميل إليها نفسه فربما تقبض عليها روحه فيكون ذلك سبب سوء خاتمته وإن كان أصل الإيمان باقيا بحيث يرجى له الخلاص منها وكما أن ما يخطر في اليقظة إنما يخطر بسبب خاص يعلمه الله تعالى فكذلك آحاد المنامات لها أسباب عند الله تعالى نعرف بعضها ولا نعرف بعضها كما أنا نعلم أن الخاطر ينتقل من الشيء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة وإما بالمضادة وإما بالمقارنة بأن يكون قد ورد على الحس منه والذي غلبت عليه المعاصي وكانت أكثر من طاعاته وقلبه بها أفرح منه بالطاعات
إما بالمشابهة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر جميلا آخر وإما بالمضادة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر قبيحا ويتأمل في شدة التفاوت بينهما وإما بالمقارنة فبأن ينظر إلى فرس قد رآه من قبل مع إنسان فيتذكر ذلك الإنسان وقد ينتقل الخاطر من شيء إلى شيء ولا يدري وجه مناسبته له وإنما يكون ذلك بواسطة وواسطتين مثل أن ينتقل من شيء ثان ومنه إلى شيء ثالث ثم ينسى الثاني ولا يكون بين الثالث والأول مناسبة ولكن يكون بينه وبين الثاني مناسبة وبين الثاني والأول مناسبة فكذلك من هذا الجنس ، وكذلك عند سكرات الموت ، فعلى هذا والعلم عند الله من كانت الخياطة أكثر أشغاله فإنك تراه يومئ إلى رأسه كأنه يأخذ إبرته ليخيط بها ويبل إصبعه التي لها عادة بالكشتبان ويأخذ الإزار من فوقه ويقدره ويشبره كأنه يتعاطى تفصيله ثم يمد يده إلى المقراض لانتقالات الخواطر في المنامات أسباب
ومن أراد أن يكف خاطره عن الانتقال عن المعاصي والشهوات فلا طريق له إلا المجاهدة طول العمر في فطامه نفسه عنها ، وفي قمع الشهوات عن القلب فهذا هو القدر الذي يدخل تحت الاختيار ويكون طول المواظبة على الخير وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت فإنه ويحشر على ما مات عليه ولذلك نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول : خمسة ستة أربعة ، فكان مشغول النفس بالحساب الذي طال إلفه له قبل الموت . يموت المرء على ما عاش عليه
وقال بعض العارفين من السلف : العرش جوهرة تتلألأ نورا فلا يكون العبد على حال إلا انطبع مثاله في العرش على الصورة التي كان عليها فإذا كان في سكرات الموت كشف له صورته من العرش فربما يرى نفسه على صورة معصية وكذلك يكشف له يوم القيامة فيرى أحوال نفسه فيأخذه من الحياء والخوف ما يجل عن الوصف وما ذكره صحيح قريب من ذلك ، فإن النائم يدرك ما يكون في المستقبل من مطالعة اللوح المحفوظ وهي جزء من أجزاء النبوة فإذا وسبب الرؤيا الصادقة واختلاج الخواطر ومقلب القلوب هو الله والاتفاقات المقتضية لسوء الخواطر غير داخلة تحت الاختيار دخولا كليا ، وإن كان لطول الإلف فيه تأثير فبهذا عظم خوف العارفين من سوء الخاتمة ؛ لأنه لو أراد الإنسان أن لا يرى في المنام إلا أحوال الصالحين وأحوال الطاعات والعبادات عسر عليه ذلك وإن كانت كثرة الصلاح والمواظبة عليه مما يؤثر فيه ولكن اضطرابات الخيال لا تدخل بالكلية تحت الضبط ، وإن كان الغالب مناسبة ما يظهر في النوم لما غلب في اليقظة حتى سمعت الشيخ أبا علي الفارمذي رحمة الله عليه يصف لي وجوب حسن أدب المريد لشيخه وأن لا يكون في قلبه إنكار لكل ما يقوله ولا في لسانه مجادلة عليه . : قال حكيت لشيخي أبي القاسم الكركاني مناما لي وقلت : رأيت قلت : لي كذا فقلت : لم ؟ ذاك قال : فهجرني شهرا ولم يكلمني ، وقال : لولا أنه كان في باطنك تجويز المطالبة وإنكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على لسانك في النوم .وهو كما قال ، إذ قلما يرى الإنسان في منامه خلاف ما يغلب في اليقظة على قلبه ، فهذا هو القدر الذي نسمح بذكره في علم المعاملة من أسرار أمر الخاتمة ، وما وراء ذلك فهو داخل في علم المكاشفة وقد ظهر لك بهذا أن رجع سوء الخاتمة إلى أحوال القلب بأن ترى الأشياء كما هي عليه من غير جهل وتزجى جميع العمر في طاعة الله من غير معصية ، فإن كنت تعلم أن ذلك محال أو عسير فلا بد وأن يغلب عليك من الخوف ما غلب على العارفين حتى يطول بسببه بكاؤك ونياحتك ويدوم به حزنك وقلقك كما سنحكيه من أحوال الأنبياء والسلف الصالحين ليكون ذلك أحد الأسباب المهيجة لنار الخوف من قلبك ، وقد عرفت بهذا أن أعمال العمر كلها ضائعة إن لم يسلم في النفس الأخير الذي عليه خروج الروح ، وإن سلامته مع اضطراب أمواج الخواطر مشكلة جدا .ولذلك كان مطرف بن عبد الله يقول إني لا أعجب ممن هلك كيف هلك ولكني أعجب ممن نجا كيف نجا ؟ ولذلك قال الأمن من سوء الخاتمة حامد اللفاف إذا صعدت الملائكة بروح العبد المؤمن وقد مات على الخير والإسلام تعجبت الملائكة منه وقالوا : كيف نجا هذا من دنيا فسد فيها خيارنا .
وكان الثوري يوما يبكي فقيل له : علام تبكي ؟ فقال : بكينا على الذنوب زمانا .
فالآن نبكي على الإسلام .
وبالجملة من وقعت سفينته في لجة البحر وهجمت عليه الرياح العاصفة واضطربت الأمواج كانت النجاة في حقه أبعد من الهلاك وقلب المؤمن أشد اضطرابا من السفينة وأمواج الخواطر أعظم التطاما من أمواج البحر ، وإنما المخوف عند الموت خاطر سوء يخطر فقط وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة فيختم له بما سبق به الكتاب .