الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولنقتصر على هذا القدر فقد خرج عنان الكلام عن قبضة الاختيار ، وامتزج بعلم المعاملة ما ليس منه ، فلنرجع إلى مقاصد الشكر فنقول : إذا رجع حقيقة الشكر إلى كون العبد مستعملا في إتمام حكمة الله تعالى فأشكر العباد : أحبهم إلى الله ، وأقربهم إليه ، وأقربهم إلى الله الملائكة ولهم أيضا ترتيب وما منهم إلا وله مقام معلوم وأعلاهم في رتبة القرب ملك اسمه إسرافيل عليه السلام وإنما علو درجتهم لأنهم في أنفسهم كرام بررة ، وقد أصلح الله تعالى بهم الأنبياء عليهم السلام وهم : أشرف مخلوق على وجه الأرض ويلي ، درجتهم درجة الأنبياء فإنهم في أنفسهم أخيار ، وقد هدى الله بهم سائر الخلق وتمم بهم حكمته وأعلاهم رتبة نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم إذ أكمل الله به الدين وختم به النبيين ويليهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فإنهم في أنفسهم صالحون ، وقد أصلح الله بهم سائر الخلق ودرجة كل واحد منهم بقدر ما أصلح من نفسه ومن غيره ، ثم يليهم السلاطين بالعدل لأنهم أصلحوا دنيا الخلق كما أصلح العلماء دينهم ولأجل اجتماع الدين والملك والسلطنة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان أفضل من سائر الأنبياء فإنه أكمل الله به صلاح دينهم ودنياهم ولم يكن السيف والملك لغيره من الأنبياء ثم يلي العلماء والسلاطين الصالحون الذين أصلحوا دينهم ونفوسهم فقط فلم تتم حكمة الله بهم بل فيهم ومن عدا هؤلاء فهمج رعاع .

واعلم أن السلطان به قوام الدين فلا ينبغي أن يستحقر وإن كان ظالما فاسقا قال عمرو بن العاص رحمه الله : إمام غشوم خير من فتنة تدوم .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون ويفسدون ، وما يصلح الله بهم أكثر ، فإن أحسنوا فلهم الأجر وعليكم الشكر ، وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر .

وقال سهل من أنكر إمامة السلطان فهو زنديق ، ومن دعاه السلطان فلم يجب فهو مبتدع ، ومن أتاه من غير دعوة فهو جاهل .

وسئل أي الناس خير ؟ فقال : السلطان ، فقيل : كنا نرى أن شر الناس السلطان ، فقال : مهلا إن لله تعالى له كل يوم نظرتين ، نظرة إلى سلامة أموال المسلمين ، ونظرة إلى سلامة أبدانهم ، فيطلع في صحيفته فيغفر له جميع ذنبه . وكان يقول : الخشبات السود المعلقة على أبوابهم خير من سبعين قاصا يقصون .

.

التالي السابق


(ولنقتصر على هذا القدر فقد خرج عنان الكلام عن قبضة الاختيار، وامتزج بعلم المعاملة ما ليس منه، فلنرجع إلى مقاصد الشكر فنقول: إذا رجع حقيقة الشكر إلى كون العبد مستعملا في إتمام حكمة الله تعالى فأشكر العباد) أي: أكثرهم شكرا (أحبهم إلى الله تعالى، وأقربهم إليه، وأقربهم إلى الله تعالى الملائكة) وذلك بالسعي في اكتساب الممكن من هذه الصفة، والمتخلق بها يصير رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة فإنهم على بساط القرب فمن ضرب إلى شبه من صفاتهم نال شيئا من قربهم بقدر ما نال من أوصافهم المقربة لهم إلى الله تعالى (ولهم) أي: للملائكة (أيضا ترتيب وما منهم إلا وله مقام معلوم) في بساط القرب، وكلهم مقربون، ودرجات قربهم متفاوتة (وأعلاهم في رتبة القرب إسرافيل عليه السلام) وهو صاحب الصور .

وقال المصنف في "مشكاة الأنوار": "قد انكشف لأرباب البصائر أن الأنوار الملكوتية إنما وجدت على الترتيب بحيث يقتبس بعضها من بعض، وأن المقرب هو الأقرب إلى النور الأقصى، فلا يبعد أن يكون رتبة إسرافيل فوق رتبة جبريل، فإن فيهم الأقرب بقرب درجة من حضرة الربوبية التي هي منبع الأنوار كلها، وأن فيهم الأدنى وبينهما درجات تستعصي على الإحصاء، وإنما المعلوم كثرتهم وترتيبهم في مقاماتهم في صفوفهم، وأنهم كما وصفوا به أنفسهم إذ قالوا: وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون

(وإنما علو درجتهم لأنهم في أنفسهم كرام بررة، وقد أصلح الله بهم الأنبياء) بإيصال الوحي إليهم (وهم) أي: الأنبياء (أشرف مخلوق على وجه الأرض، وتلي درجتهم درجة الأنبياء فإنهم في أنفسهم أخيار، وقد هدى الله بهم سائر الخلق) إلى ما فيه نجاتهم وعصمتهم (وتمم بهم حكمته) في الخلق، (وأعلاهم رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم إذ أكمل به الدين) الذي ارتضاه (وختم به النبيين) والمرسلين كما يشير إلى كل منهما قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وقوله تعالى: وخاتم النبيين . (ويليهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء) ورثوا منهم علما وحكمة (فإنهم في أنفسهم صالحون، وقد أصلح الله بهم سائر الخلق) بإرشادهم إياهم إلى طريق الحق (ودرجة كل واحد بقدر ما أصلح من نفسه ومن غيره، ثم يليهم) أي: يلي درجة الأنبياء (السلاطين بالعدل لأنهم أصلحوا دنيا الخلق كما أصلح العلماء دينهم) فكل من العلماء والسلاطين في درجة واحدة ولكن مع اعتبارين مختلفين (ولأجل اجتماع الدين والملك والسلطنة لنبينا صلى الله عليه وسلم كان أفضل من سائر الأنبياء) عليهم السلام (فإنه أكمل الله به صلاح دينهم ودنياهم) ومعاشهم ومعادهم (ولم يكن السيف والملك لغيره من الأنبياء) فقد روى أحمد والحكيم وأبو يعلى والطبراني والبيهقي من حديث ابن عمر : "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي في ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري"، الحديث .

(ثم يلي العلماء الصالحون الذين أصلحوا دينهم) وفي نسخة: أنفسهم (فقط فلم تتم حكمة الله بهم إلا فيهم) فهؤلاء كذلك لهم درجة ما في القرب (ومن عدا هؤلاء فهمج رعاع) لا يعبأ بهم. (واعلم أن السلطان) المتولي لأمور المملكة أعم من أن يكون [ ص: 78 ] خليفة أو ملكا، وإن كان في مصطلح أهل الفن فرق بين الثلاثة تقدمت الإشارة إليه في كتاب العلم (به قوام الدين) ونظامه وملاكه (فلا ينبغي أن يستحقر) أو يهان (وإن كان ظالما) غشوما (فاسقا) متعديا للحدود الشرعية. (قال عمرو بن العاص رحمه الله تعالى: إمام غشوم خير من فتنة تدوم) والغشوم هو الظالم (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: سيكون عليكم أمراء يفسدون، وما يصلح الله بهم أكثر، فإن أحسنوا فلهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر) . قال العراقي : رواه مسلم من حديث أم سلمة: تستعمل عليكم أمراء فيعرفون وينكرون، ورواه الترمذي بلفظ: سيكون أمراء، وقال: حسن صحيح، والبزار بسند ضعيف من حديث ابن عمر : السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر، وأما قوله: "وما يصلح الله بهم أكثر" فلم أجده بهذا اللفظ إلا أنه يؤخذ من حديث ابن مسعود حين فزع إليه الناس لما أنكروا سيرة الوليد بن عقبة فقال عبد الله: اصبروا فإن جور إمامكم خمسين سنة خير من هرج سنة، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول..... فذكر حديثا فيه: والإمارة الفاجرة خير من الهرج. رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به، انتهى .

قلت: بل هو في حديث الربيع بن عميلة عن ابن مسعود رفعه: سيليكم أمراء يفسدون وما يصلح الله بهم أكثر، فمن عمل منهم بطاعة الله فلهم الأجر وعليكم الشكر، ومن عمل منهم بمعصية الله فعليهم الوزر وعليكم الصبر، رواه هكذا البيهقي في الشعب، وأبو نعيم في العادلين، وابن النجار في التاريخ، وقد نبه على ذلك الحافظ السخاوي في هامش المغني مختصرا، ووجدت بعض سياق المصنف في حديث أبي هريرة: سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره ويليكم الفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم. رواه ابن جرير والدارقطني وابن النجار بإسناد ضعيف، وفي خبر آخر: سيكون من بعدي أمراء فأدوا إليهم طاعتهم فإن الأمير مثل المجن يتقى به، فإن صلحوا واتقوا وأمروكم بخير فلكم ولهم، وإن أساءوا وأمروكم به فعليهم، وأنتم منه براء، وإن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم. رواه الطبراني في الكبير عن شريح بن عبيد قال: أخبرني جبير بن نفير وكثير بن مرة وعمرو بن الأسود والمقدام بن معدي كرب وأبو أمامة.

(وقال سهل) التستري رحمه الله تعالى (من أنكر إمامة السلطان فهو زنديق، ومن دعاه السلطان فلم يجبه فهو مبتدع، ومن أتاه من غير دعوة فهو جاهل. وسئل) أيضا (أي الناس خير؟ فقال: السلطان، فقيل:) له ( إنا كنا نرى أن شر الناس السلطان، فقال: مهلا إن لله تعالى كل يوم نظرتين، نظرة إلى سلامة أموال المسلمين، ونظرة إلى سلامة أبدانهم، فيطلع في صحيفته فيغفر له جميع ذنبه. وكان) أيضا (يقول: الخشبات السود المعلقة على أبوابهم خير من سبعين قاصا يقص) ، وفي نسخة: قاصا يقصون، وروى صاحب الحلية في ترجمة عبد الله بن المبارك من قوله:


الله يدفع بالسلطان معضلة عن ديننا رحمة منه ورضوانا لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل
وكان أضعفنا نهبا لأقوانا






الخدمات العلمية