فقد ظهر لك بهذه التقسيمات أن فإن الذي كفي الشهوات كلها ، واعتزل وحده لا ، يستغني عن الصبر على العزلة والانفراد ظاهرا وعن ، الصبر عن وساوس الشيطان باطنا ، فإن اختلاج الخواطر لا يسكن وأكثر جولان الخواطر إنما يكون في فائت لا تدارك له ، أو في مستقبل لا بد وأن يحصل منه ما هو مقدر فهو كيفما كان تضييع زمان وآلة العبد قلبه ، وبضاعته عمره فإذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنسا بالله تعالى ، أو عن فكر يستفيد به معرفة بالله تعالى ليستفيد بالمعرفة محبة الله تعالى فهو مغبون هذا إن كان فكره ووسواسه في المباحات مقصورا عليه ولا يكون ذلك غالبا بل يتفكر في وجوه الحيل لقضاء الشهوات إذ لا يزال ينازع كل من تحرك على خلاف غرضه في جميع عمره أو من يتوهم أنه ينازعه ويخالف أمره أو غرضه بظهور أمارة له منه بل يقدر المخالفة من أخلص الناس في حبه حتى في أهله وولده ويتوهم مخالفتهم له ثم يتفكر في كيفية زجرهم وكيفية قهرهم وجوابهم عما يتعللون به في مخالفته ولا يزال في شغل دائم فللشيطان جندان جند يطير وجند يسير والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار ، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار ، وهذا لأن الشيطان خلق من النار ، وخلق الإنسان من صلصال كالفخار والفخار قد اجتمع فيه مع النار الطين والطين طبيعته السكون والنار طبيعتها الحركة فلا يتصور نار مشتعلة لا تتحرك بل لا تزال تتحرك بطبعها ، وقد كلف الملعون المخلوق من النار أن يطمئن عن حركته ساجدا لما خلق الله من الطين فأبى واستكبر واستعصى ، وعبر عن سبب استعصائه بأن قال : خلقتني من نار وخلقته من طين . وجوب الصبر عام في جميع الأحوال والأفعال
فإذا حيث لم يسجد الملعون لأبينا آدم صلوات الله عليه وسلامه فلا ينبغي أن يطمع في سجوده لأولاده ومهما كف عن القلب وسواسه وعدوانه وطيرانه وجولانه فقد أظهر انقياده وإذعانه، وانقياده بالإذعان سجود منه فهو روح السجود وإنما وضع الجبهة على الأرض قالبه وعلامته الدالة عليه بالاصطلاح ولو جعل وضع الجبهة على الأرض علامة استخفاف بالاصطلاح لتصور ذلك ، كما أن الانبطاح بين يد المعظم المحترم يرى استخفافا بالعادة ، فلا ينبغي أن يدهشك صدف الجوهر عن الجوهر ، وقالب الروح عن الروح ، وقشر اللب عن اللب ، فتكون ممن قيده عالم الشهادة بالكلية عن عالم الغيب وتحقق أن الشيطان من المنظرين فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين إلا أن تصبح وهمومك هم واحد ، فتشغل قلبك بالله وحده ، فلا يجد الملعون مجالا فيك فعند ذلك تكون من عباد الله المخلصين الداخلين في الاستثناء عن سلطنة هذا اللعين .
ولا تظنن أنه يخلو عنه قلب فارغ ، بل هو سيال يجري من ابن آدم مجرى الدم وسيلانه مثل الهواء في القدح ، فإنك إن أردت أن يخلو القدح عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو بغيره فقد طمعت في غير مطمع ، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه الهواء لا محالة فكذلك ، القلب المشغول بفكر مهم في الدين لا يخلو عن جولان الشيطان وإلا فمن غفل عن الله تعالى ، ولو في لحظة ، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان ، ولذلك قال تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين .
وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يبغض الشاب الفارغ وهذا لأن الشاب إذا تعطل عن عمل يشغل باطنه بمباح يستعين به على دينه كان ظاهره فارغا ، ولم يبق قلبه فارغا ، بل يعشش فيه الشيطان ويبيض ويفرخ ، ثم تزدوج أفراخه أيضا ، وتبيض مرة أخرى وتفرخ ، وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا أسرع من توالد سائر الحيوانات ، لأن طبعه من النار ، وإذا وجد الحلفاء اليابسة كثر توالده ، فلا يزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع البتة بل تسري شيئا فشيئا على الاتصال ، فالشهوة في نفس الشاب للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار ، وكما لا تبقى النار إذا لم يبق لها قوت وهو الحطب ، فلا يبقى للشيطان مجال إذا لم تكن شهوة فإذا إذا تأملت علمت أن أعدى عدوك شهوتك ، وهي صفة نفسك ولذلك قال الحسين بن منصور الحلاج حين كان يصلب وقد سئل عن التصوف ما هو فقال هي : نفسك إن لم تشغلها شغلتك .
فإذا وكماله ، الصبر عن كل حركة مذمومة وحركة الباطن أولى بالصبر عن ذلك وهذا صبر دائم لا يقطعه إلا الموت نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه . حقيقة الصبر ،
.