الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فقد ظهر لك بهذه التقسيمات أن وجوب الصبر عام في جميع الأحوال والأفعال فإن الذي كفي الشهوات كلها ، واعتزل وحده لا ، يستغني عن الصبر على العزلة والانفراد ظاهرا وعن ، الصبر عن وساوس الشيطان باطنا ، فإن اختلاج الخواطر لا يسكن وأكثر جولان الخواطر إنما يكون في فائت لا تدارك له ، أو في مستقبل لا بد وأن يحصل منه ما هو مقدر فهو كيفما كان تضييع زمان وآلة العبد قلبه ، وبضاعته عمره فإذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنسا بالله تعالى ، أو عن فكر يستفيد به معرفة بالله تعالى ليستفيد بالمعرفة محبة الله تعالى فهو مغبون هذا إن كان فكره ووسواسه في المباحات مقصورا عليه ولا يكون ذلك غالبا بل يتفكر في وجوه الحيل لقضاء الشهوات إذ لا يزال ينازع كل من تحرك على خلاف غرضه في جميع عمره أو من يتوهم أنه ينازعه ويخالف أمره أو غرضه بظهور أمارة له منه بل يقدر المخالفة من أخلص الناس في حبه حتى في أهله وولده ويتوهم مخالفتهم له ثم يتفكر في كيفية زجرهم وكيفية قهرهم وجوابهم عما يتعللون به في مخالفته ولا يزال في شغل دائم فللشيطان جندان جند يطير وجند يسير والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار ، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار ، وهذا لأن الشيطان خلق من النار ، وخلق الإنسان من صلصال كالفخار والفخار قد اجتمع فيه مع النار الطين والطين طبيعته السكون والنار طبيعتها الحركة فلا يتصور نار مشتعلة لا تتحرك بل لا تزال تتحرك بطبعها ، وقد كلف الملعون المخلوق من النار أن يطمئن عن حركته ساجدا لما خلق الله من الطين فأبى واستكبر واستعصى ، وعبر عن سبب استعصائه بأن قال : خلقتني من نار وخلقته من طين .

فإذا حيث لم يسجد الملعون لأبينا آدم صلوات الله عليه وسلامه فلا ينبغي أن يطمع في سجوده لأولاده ومهما كف عن القلب وسواسه وعدوانه وطيرانه وجولانه فقد أظهر انقياده وإذعانه، وانقياده بالإذعان سجود منه فهو روح السجود وإنما وضع الجبهة على الأرض قالبه وعلامته الدالة عليه بالاصطلاح ولو جعل وضع الجبهة على الأرض علامة استخفاف بالاصطلاح لتصور ذلك ، كما أن الانبطاح بين يد المعظم المحترم يرى استخفافا بالعادة ، فلا ينبغي أن يدهشك صدف الجوهر عن الجوهر ، وقالب الروح عن الروح ، وقشر اللب عن اللب ، فتكون ممن قيده عالم الشهادة بالكلية عن عالم الغيب وتحقق أن الشيطان من المنظرين فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين إلا أن تصبح وهمومك هم واحد ، فتشغل قلبك بالله وحده ، فلا يجد الملعون مجالا فيك فعند ذلك تكون من عباد الله المخلصين الداخلين في الاستثناء عن سلطنة هذا اللعين .

ولا تظنن أنه يخلو عنه قلب فارغ ، بل هو سيال يجري من ابن آدم مجرى الدم وسيلانه مثل الهواء في القدح ، فإنك إن أردت أن يخلو القدح عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو بغيره فقد طمعت في غير مطمع ، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه الهواء لا محالة فكذلك ، القلب المشغول بفكر مهم في الدين لا يخلو عن جولان الشيطان وإلا فمن غفل عن الله تعالى ، ولو في لحظة ، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان ، ولذلك قال تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين .

وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يبغض الشاب الفارغ وهذا لأن الشاب إذا تعطل عن عمل يشغل باطنه بمباح يستعين به على دينه كان ظاهره فارغا ، ولم يبق قلبه فارغا ، بل يعشش فيه الشيطان ويبيض ويفرخ ، ثم تزدوج أفراخه أيضا ، وتبيض مرة أخرى وتفرخ ، وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا أسرع من توالد سائر الحيوانات ، لأن طبعه من النار ، وإذا وجد الحلفاء اليابسة كثر توالده ، فلا يزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع البتة بل تسري شيئا فشيئا على الاتصال ، فالشهوة في نفس الشاب للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار ، وكما لا تبقى النار إذا لم يبق لها قوت وهو الحطب ، فلا يبقى للشيطان مجال إذا لم تكن شهوة فإذا إذا تأملت علمت أن أعدى عدوك شهوتك ، وهي صفة نفسك ولذلك قال الحسين بن منصور الحلاج حين كان يصلب وقد سئل عن التصوف ما هو فقال هي : نفسك إن لم تشغلها شغلتك .

فإذا حقيقة الصبر ، وكماله ، الصبر عن كل حركة مذمومة وحركة الباطن أولى بالصبر عن ذلك وهذا صبر دائم لا يقطعه إلا الموت نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه .

.

التالي السابق


(فقد ظهر لك بهذه التقسيمات أن وجوب الصبر عام في جميع الأحوال والأفعال) لا يخص منها حال دون حال، ولا فعل دون فعل، (فإن الذي كفي الشهوات كلها، واعتزل وحده، فلا يستغني عن الصبر على العزلة والانفراد ظاهرا، عن الصبر عن وساوس الشيطان باطنا، فإن اختلاج الخواطر لا يسكن) أبدا (وأكثر جولان الخواطر إنما يكون في فائت لا تدارك له، أو في مستقبل لا بد وأن يحصل منه ما هو مقدر) من الأزل (فهو كيفما كان تضييع زمان) فأي [ ص: 32 ] فائدة في شيء فات ولم يمكن تلافيه، أم أي فائدة في شيء هو غيب لا يدرى كيف يكون، وإليه أشار القائل:


ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها

(وآلة العبد قلبه، وبضاعته عمره) وكل منهما نفيس، (فإذا غفل القلب في نفس واحد عن ذكر يستفيد به أنسا بالله تعالى، أو عن فكر يستفيد به معرفة الله تعالى ليستفيد بالمعرفة محبة الله تعالى) ويحظى بمزيد القرب منه (فهو مغبون) أي: خسر (هذا إذا كان فكر ووسواسه في المباحات) الشرعية، (وكان ذلك مقصورا عليه ولا يكون ذلك غالبا بل يتفكر في وجود الحيل) وأنواع الخداع (لقضاء الشهوات) النفسية (إذ لا يزال ينازع كل من تحرك على خلاف غرضه في جميع عمره أو من يتوهم أنه ينازعه ويخالف أمره أو غرضه بظهور إمارة) أي: علامة (له منه) تدل على ذلك (بل يقدر المخالفة من أخلص في حبه) وأحبهم إليه (حتى في أهله وولده ويتوهم مخالفتهم له) في أمره أو غرضه (ثم يتفكر في كيفية زجرهم وكيفية قهرهم وجوابهم عما يتعللون به في مخالفته) فيطول الحال ويكثر الاشتغال، (ولا يزال في شغل دائم) لا ينتهي إلى حد .

(فللشيطان جندان جند يطير وجند يسير والوسواس) العارض منه (عبارة عن حركة جنده الطيارة، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيارة، وهذا لأن الشيطان خلق من النار، وخلق الإنسان من صلصال كالفخار) كما هو نص الكتاب العزيز (والفخار قد اجتمع فيه مع النار الطين) إذ لا يكون فخارا يصلصل إلا بدخوله في النار (والطين طبيعته السكون) والاستقرار والبرودة (والنار طبعها الحركة) والاضطراب والحرارة (فلا يتصور نار مشتعلة لا تتحرك بل لا تزال تتحرك بطبعها، وقد كلف الملعون المخلوق من النار أن يطمئن عن حركته ساجدا لما خلق من الطين فأبى) أي: امتنع (واستكبر واستعصى، وعبر عن سبب استعصائه بأن قال: خلقتني من نار وخلقته من طين) ، وأن النار أشرف من الطين، فكيف يسجد الشريف للمشروف، (فإذا حيث لم يسجد الملعون لأبينا آدم عليه السلام فلا ينبغي أن يطمع في سجوده لأولاده) ، وقد وقع ذلك في مراجعته لبعض الأنبياء حين قال له: ألا تطلب من الله أن يتوب علي؟ فقال: نعم، فرفع يديه وسأله ذلك وراجعه في قبول توبة إبليس، فجاء الخطاب: نعم إن سجد لقبر آدم عليه السلام، فقال له ذلك النبي، فقال: أنا لم أسجد له وهو حي فكيف أسجد له وهو ميت .

(ومهما كف عن القلب وسواسه وعداوته وطيرانه وجولانه فقد أظهر القيادة) وإذعانه في الجملة (فانقياده في الإذعان سجود منه فهو روح السجود) ، ومعناه في الباطن (وإنما وضع الجبهة على الأرض علامة استخفاف بالاصطلاح لتصور ذلك، كما أن الإنكاح بين يدي) الرجل (المعظم المحترم يرى استخفافا بالعادة، فلا ينبغي أن يدهشك صدف الجوهر عن الجواهر، وقالب الروح عن الروح، وقشر اللب عن اللب، فتكون ممن قيده عالم الشهادة بالكلية عن عالم الغيب) والملكوت .

(وتحقق أن الشيطان من المنظرين) أي: من الذين قد أمهلوا (فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين إلا أن تصبح وهمومك كلها هم واحد، لا تتشعب بك الأودية، فتشغل قلبك بالله وحده، فلا يجد الملعون مجالا فيك) ولا يتمكن منك مادمت كذلك كأنك في حصن منيع (فعند ذلك تكون من عباد الله المخلصين) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (الداخلين في الاستثناء عن سلطان [ ص: 33 ] هذا اللعين) كما في الكتاب العزيز .

(ولا تظن أنه يخلو عنه قلب فارغ، بل هو سيال يجري من ابن آدم مجرى الدم) كما في الخبر أن "الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"، رواه أحمد، والشيخان، من حديث أنس ، وقد تقدم ذكره، وتقدم أيضا الاختلاف فيه أنه هل هو على حقيقته بأن جعل له قوة وقدرة على الجري في باطن الإنسان في مجاري دمه، أو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته، وأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه .

(وسيلانه مثل الهواء في القدح، فإنك إن أردت أن يخلو القدح عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو بغيره فقد طمعت في غير مطمع، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه الهواء لا محالة، فذلك القلب المشغول بفكر مهم في الدين يخلو عن جولان الشياطين) فيه، (وإلا فمن غفل عن الله تعالى، ولو في لحظة، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان، ولذلك قال) الله (تعالى: ومن يعش عن ذكر الرحمن ) أي: يغفل عنه ولم يهتد إلى طريقه ( نقيض له شيطانا فهو له قرين ) أي: مقارن له لا يفارقه في أحواله .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله يبغض الشاب الفارغ) .

قال العراقي : غريب لم أجده، قلت: روى صاحب الحلية في ترجمة ابن مسعود أنه قال: "إني لأكره أن أرى الرجل فارغا لا في عمل دنيا ولا آخرة"، وفي لفظ له: "إني لأمقت الرجل أن أراه فارغا، ليس في شيء من عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة". (وهذا لأن الشاب إذا تعطل عن عمل يشغل باطنه بمباح يستعين به على دينه كان ظاهره فارغا، ولم يبق قلبه فارغا، بل يعشش فيه الشيطان ويبيض ويفرخ، ثم تزدوج أفراخه أيضا، وتبيض مرة أخرى وتفرخ، وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا أسرع من توالد سائر الحيوانات، لأن طبعه من النار، وإذا وجد الحلفاء اليابسة كثر توالده، فلا يزال تتولد النار من النار ولا تنقطع البتة بل تسري شيئا فشيئا) وقليلا فقليلا (على الاتصال، فالشهوة في نفس الشاب للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار، وكما لا تبقى النار إذا لم يبق لها قوت وهو الحطب، فلا يبقى للشيطان مجال إذا لم تكن شهوة) ، ولذلك قالوا: النار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله .

(فإذا إذا تأملت علمت أن أعدى عدوك شهوتك، وهي صفة نفسك) ففي الخبر: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"، وفي رواية: "زوجتك التي تضاجعك". وروى العسكري عن سعيد بن أبي هلال مرسلا: "ليس عدوك الذي إن قتلته كان لك نورا، وإن قتلك دخلت الجنة، ولكن أعدى الأعداء لك نفسك التي بين جنبيك، (ولذلك قال) أبو المغيث (الحسين بن منصور) بن أبي بكر بن عمر بن عبد الله بن الليث بن أبي بكر بن أبي صالح بن عبد الله بن أبي أيوب الأنصاري (الحلاج) صحب الجنيد والثوري وغيرهما، واختلف الناس فيه فأفتى كثير من العلماء بإباحة دمه، فقتل يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة سنة 209 (حين كان يصلب) وذلك ببغداد، (وقد سئل عن التصوف فقيل) له ما هو؟ (فقال: هو نفسك إن لم تشغلها) بالذكر والفكر (شغلتك) بما يبعدك عن حضرة الله .

(فإذا حقيقة الصبر، وكماله، الصبر عن كل حركة مذمومة) ذمها الشارع (وحركة الباطن أولى بالصبر عن ذلك) لما فيه من الوساوس والخطرات، (وهذا صبر دائم لا يقطعه إلا الموت) نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه .




الخدمات العلمية