الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان ذم الكبر .

قد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه ، وذم كل جبار متكبر ، فقال تعالى : سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وقال عز وجل : كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وقال تعالى : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد وقال تعالى إنه لا يحب المستكبرين وقال تعالى : لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا وقال تعالى : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وذم الكبر في القرآن كثير وقد قال رسول الله ، وقال صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان »، وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : « الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي» .

وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : التقى عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر على الصفا فتواقفا ، فمضى ابن عمرو وأقام ابن عمر يبكي ، فقالوا ما : يبكيك يا أبا عبد الرحمن ؟ فقال : هذا ، يعني عبد الله بن عمرو زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله في النار على وجهه » .

وقال صلى الله عليه وسلم: لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين ، فيصيبه ما أصابهم من العذاب » .

وقال سليمان بن داود عليهما السلام يوما للطير والإنس والجن والبهائم : اخرجوا ، فخرجوا في مائتي ألف من الإنس ، ومائتي ألف من الجن ، فرفع حتى سمع زجل الملائكة بالتسبيح في السموات ثم خفض حتى مست أقدامه البحر ، فسمع صوتا لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته .

وقال صلى الله عليه وسلم : « يخرج من النار عنق له أذنان تسمعان ، وعينان تبصران ، ولسان ينطق ، يقول : وكلت بثلاثة؛ بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين » . .

وقال صلى الله عليه وسلم: « لا يدخل الجنة جبار ولا بخيل ولا سيئ الملكة .

التالي السابق


(بيان ذم الكبر) *

اعلم أنه (قد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه، وذم كل جبار ومتكبر، فقال تعالى: سأصرف عن آياتي ) المنصوبة في الآفاق والأنفس ( الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) سيأتي تفسيره للمصنف في آخر بيان حقيقة الكبر وآفته .

(وقال تعالى: {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار}) قرئ بالتنوين على حذف مضاف، أي: كل ذي قلب (وقال تعالى: واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد ) أي: معاند للحق، جاحد له، مستكبر عن قبوله .

(وقال تعالى: إنه لا يحب المستكبرين وقال تعالى: لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا [ ص: 338 ] وقال تعالى: إن الذين يستكبرون عن عبادتي ) فلا يرفعون لها رأسا ( سيدخلون جهنم داخرين ) أي: صاغرين ذليلين .

(وذم الكبر في القرآن كثير، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان") قال العراقي: رواه مسلم من حديث ابن مسعود. اهـ .

قلت: سياق المصنف لأحمد في مسنده، لكنه بتقديم وتأخير وزيادة، قال: حدثنا عارم، قال: حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي، حدثنا سليمان الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، قال رجل: يا رسول الله، يعجبني أن يكون ثوبي غسيلا، ورأسي دهينا، وشراك نعلي جديدا، وذكر أشياء حتى علاقة سوطه، قال: ذاك جمال، والله جميل يحب الجمال، ولكن الكبر من بطر الحق وازدرى الناس".

ورواه الحاكم من رواية عفان، عن عبد العزيز بن مسلم بالإسناد المذكور، ولفظ الحديث: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة من كبر" الحديث، وفيه: "والله يحب الجمال" ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتجا جميعا برواته، واعترض عليه العراقي في إصلاح المستدرك فقال: لم يحتج واحد من الشيخين بيحيى بن جعدة، ومع ذلك فهو مرسل؛ فإن يحيى لم يلق ابن مسعود، كما قال ابن معين وأبو حاتم، ومع ذلك فالحديث أخرجه مسلم من رواية إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، مع اختلاف يسير، فلا حاجة إلى إيراده، اهـ. كلام العراقي.

قلت: لفظ مسلم: "قيل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس".

وقد رواه هناد في الزهد، عن يحيى بن جعدة المخزومي مرسلا، ولفظه: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة من خردل من كبر، العزة إزار الله، والكبرياء رداؤه".

وروى الطبراني في الكبير من حديث السائب بن يزيد: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال كبر".

وروى البزار من حديث ابن عباس: "لا يدخل الجنة مثقال حبة خردل من كبر، ولا يدخل النار مثقال حبة خردل من إيمان".

وروى مسلم والترمذي وابن ماجه من حديث ابن مسعود: "لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبرياء".

وروى أبو يعلى والطبراني والبيهقي والضياء من حديث عبد الله بن سلام: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر".

ورواه الطبراني أيضا من حديث ابن عباس، ورواه أحمد وهناد والطبراني أيضا من حديث عبد الله بن عمرو، وروى ابن سعد وأحمد والبغوي والطبراني والبيهقي وابن عساكر من حديث أبي ريحانة: "لا يدخل الجنة من الكبر شيء، فقال قائل: يا رسول الله، إني أحب أن أتجمل بسير سوطي، وشسع نعلي، فقال: إن ذلك ليس بالكبر، إن الله جميل يحب الجمال، إنما الكبر من سفه الحق وغمص الناس بعينه".

(وقال أبو هريرة) رضي الله عنه: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي") قال العراقي: رواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه واللفظ له، وقال أبو داود: "قذفته في النار" وقال مسلم: "عذبته" وقال: "رداؤه وإزاره" بالغيبة، وزاد مع أبي هريرة أبا سعيد أيضا. اهـ .

قلت: وبلفظ أبي داود رواه أيضا أحمد وهناد والدارقطني في الأفراد، ورواه ابن حبان في صحيحه، بلفظ: "ألقيته في النار" ورواه القضاعي في مسنده من طريق عطاء بن السائب، عن أبيه، عن أبي هريرة مثله .

ورواه الحاكم في مستدركه من وجوه أخر، بلفظ: "قصمته" وبدون ذكر العظمة، وقد تقدم قبل هذا بحديثين .

وعند الحكيم الترمذي من حديث أنس: "يقول الله -عز وجل-: لي العظمة والكبرياء والفخر، والقدر سري، فمن نازعني واحدة منهن كببته في النار".

(وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه وكنيته واحد، قال ابن سعد: كان ثقة فقيها كثير الحديث، وقال أبو زرعة: ثقة إمام، توفي سنة أربع وتسعين بالمدينة، وهو ابن اثنين وسبعين سنة، روى [ ص: 339 ] له الجماعة (قال: التقى عبد الله بن عمر) بن الخطاب (وعبد الله بن عمرو) بن العاص رضي الله عنهما (على المروة، فتوافقا، فمضى ابن عمرو) بن العاص (وقام ابن عمر يبكي، فقالوا: وما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: هذا، يعني عبد الله بن عمرو) بن العاص (زعم أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله في النار على وجهه") قال العراقي: رواه أحمد، والبيهقي في الشعب من طريقه بإسناد صحيح. اهـ .

قلت: وكذلك رواه الدارقطني في الأفراد، وابن النجار في التاريخ (وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم من العذاب") قال العراقي: رواه الترمذي وحسنه من حديث سلمة بن الأكوع دون قوله: "من العذاب". اهـ .

قلت: لفظ الترمذي: "لا يزال الرجل يتكبر ويذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين، فيصيبه ما أصابهم" وقال: حسن غريب. ورواه كذلك الدارقطني في الأفراد، والطبراني في الكبير .

(وقال سليمان بن داود -عليهما السلام- يوما للطير والجن والإنس والبهائم: اخرجوا، فخرجوا في مائتي ألف من الإنس، ومائتي ألف من الجن، فرفع حتى سمع زجل الملائكة بالتسبيح في السموات) الزجل محركة: الصوت (ثم خفض حتى مست قدماه البحر، فسمع صوتا) أي: من هاتف (لو كان في قلب صاحبكم) يعني سليمان عليه السلام (مثقال ذرة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته، وقال صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار عنق له أذنان تسمعان، وعينان تبصران، ولسان ينطق، يقول: وكلت بثلاثة؛ بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، والمصورين") قال العراقي: رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: حسن غريب. اهـ .

قلت: لفظ الترمذي: "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران، وأذنان تسمعان" والباقي سواء، وقال: حسن غريب. ورواه كذلك أحمد، وابن مردويه، والبيهقي.

(وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة جبار ولا بخيل ولا سيئ الملكة) قال العراقي: تقدم في آداب الكسب والمعاش، والمعروف: "خائن" مكان "كل جبار". اهـ .

قلت: وروى الطيالسي من حديث أبي بكر: "لا يدخل الجنة خب، ولا خائن" ورواه أحمد بلفظ: "لا يدخل الجنة بخيل، ولا خب، ولا خائن، ولا سيئ الملكة".

وعند الخطيب في ذم البخلاء وابن عساكر: "لا يدخل الجنة خب، ولا بخيل، ولا لئيم، ولا منان، ولا خائن، ولا سيئ الملكة".

وعند الخرائطي في مساوئ الأخلاق من حديث أنس: "لا يدخل الجنة بخيل، ولا خب، ولا منان، ولا سيئ الملكة".

وروى الطيالسي، والترمذي وقال: حسن غريب، وابن ماجه، والدارقطني في الأفراد من حديث أبي بكر: "لا يدخل الجنة سيئ الملكة" ولم أجد لفظ "جبار" في شيء من الروايات .




الخدمات العلمية