وأما المتقي فجهده في زيادة الدرجات فإن حبط تطوعه بقي من حسناته ما يترجح على السيئات فيدخل الجنة .
فإذن ثم يلزم قلبه ذلك بعد الفراغ ؛ حتى لا ، يظهره ولا يتحدث به وإذا ، فعل جميع ذلك فينبغي أن يكون وجلا من عمله ، خائفا أنه ربما داخله من الرياء الخفي ما لم يقف عليه ، فيكون شاكا في قبوله ورده ، مجوزا أن يكون الله قد أحصى عليه من نيته الخفية ما مقته بها ورد عمله بسببها ، ويكون هذا الشك والخوف في دام عمله ، وبعده إلا ، في ابتداء العقل ، بل ينبغي أن يكون متيقنا في الابتداء أنه مخلص ، ما يريد بعمله إلا الله ؛ حتى يصح عمله ، فإذا شرع ومضت لحظة يمكن فيها الغفلة والنسيان كان الخوف من الغفلة عن شائبة خفية أحبطت عمله من رياء أو عجب أولى به ولكن يكون رجاؤه أغلب من خوفه ؛ لأنه استيقن أنه دخل بالإخلاص وشك في أنه هل أفسده برياء ، فيكون رجاء القبول أغلب ، وبذلك تعظم لذته في المناجاة والطاعات . : ينبغي أن يلزم قلبه خوف اطلاع غير الله عليه ؛ لتصح نوافله ،
فالإخلاص يقين والرياء شك .
وخوفه لذلك الشك جدير بأن يكفر خاطر الرياء إن كان قد سبق وهو غافل عنه .
والذي . يتقرب إلى الله بالسعي في حوائج الناس وإفادة العلم ينبغي أن يلزم نفسه رجاء الثواب على دخول السرور على قلب من قضى حاجته فقط ، ورجاء الثواب على عمل المتعلم بعلمه فقط ، دون شكر ومكافأة وحمد وثناء من المتعلم والمنعم عليه ؛ فإن ذلك يحبط الأجر .
فمهما توقع من المتعلم مساعدة في شغل ، وخدمة ، أو مرافقة في المشي في الطريق ليستكثر باستتباعه أو ترددا منه في حاجة فقد أخذ أجره بلا ، ثواب له غيره .
نعم ، إن لم يتوقع هو ولم يقصد إلا الثواب على عمله بعلمه ؛ ليكون له مثل أجره ، ولكن خدمه التلميذ بنفسه فقبل خدمته فنرجو أن لا يحبط ذلك أجره إذا كان لا ينتظره ولا يريده منه ولا يستبعده منه لو قطعه .
ومع هذا فقد كان العلماء يحذرون هذا ، حتى إن بعضهم وقع في بئر فجاء قوم فأدلوا حبلا ليرفعوه فحلف عليهم أن لا يقف معهم من قرأ عليه آية من القرآن ، أو سمع منه حديثا ؛ خيفة أن يحبط أجره .
وقال أهديت لسفيان الثوري ثوبا فرده علي فقلت له : يا شقيق البلخي أبا عبد الله لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده علي قال علمت ذاك ، ولكن أخوك يسمع مني الحديث ، فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره .
وجاء رجل إلى سفيان ببدرة أو بدرتين ، وكان أبوه صديقا لسفيان ، وكان سفيان يأتيه كثيرا فقال له : يا أبا عبد الله ، في نفسك من أبي شيء ? فقال : يرحم الله أباك كان وكان وأثنى ، عليه فقال : يا أبا عبد الله ، قد عرفت كيف صار هذا المال إلي فأحب أن تأخذ هذه تستعين بها على عيالك ، قال : فقبل سفيان ذلك قال ، فلما خرج قال لولده يا مبارك الحقه فرده علي فرجع فقال أحب أن تأخذ مالك فلم يزل به حتى رده عليه .
وكأنه كانت أخوته مع أبيه في الله تعالى فكره أن يأخذ ذلك .
قال ولده : فلما خرج لم أملك نفسي أن جئت إليه ، فقلت : ويلك ! أي شيء قلبك هذا ؟! حجارة ! عد أنه ليس لك عيال ، أما ترحمني ؟! أما ترحم إخوتك ؟! أما ترحم عيالنا ؟! فأكثرت عليه ، فقال لي : يا مبارك ! تأكلها أنت هنيئا مريئا وأسأل عنها أنا .
فإذن : يجب على العالم أن يلزم قلبه طلب الثواب من الله في اهتداء الناس به فقط ويجب على المتعلم أن يلزم قلبه حمد الله ، وطلب ثوابه ، ونيل المنزلة عنده لا عند المعلم وعند الخلق .
وربما يظن أن له أن يرائي بطاعته لينال عند المعلم رتبته ، فيتعلم منه ، وهو خطأ ؛ لأن إرادته بطاعته غير الله خسران في الحال ، والعلم ربما يفيد وربما لا يفيد فيكف ، يخسر في الحال عملا نقدا على توهم علم وذلك غير جائز بل ينبغي ، أن يتعلم لله ، ويعبد الله ، ويخدم المعلم لله ، لا ليكون له في قلبه منزلة إن كان يريد أن يكون تعلمه طاعة ؛ فإن العباد أمروا أن لا يعبدوا إلا الله ، ولا يريدوا بطاعتهم غيره .
وكذلك من يخدم أبويه لا ينبغي أن يخدمهما لطلب المنزلة عندهما ، إلا من حيث إن رضا الله عنه في رضا الوالدين ولا يجوز له أن يرائي بطاعته لينال بها منزلة عند الوالدين ؛ فإن ذلك معصية في الحال ، وسيكشف الله عن ريائه ، وتسقط منزلته من قلوب الوالدين أيضا .