الثانية : أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك ، فيقتصر على تكذيبه ودفعه ولا يشتغل بمجادلته .
الثالثة : أن لا يشتغل بتكذيبه أيضا ؛ لأن ذلك وقفة وإن قلت : بل يكون قد قرر في عقد ضميره كراهة الرياء ، وكذب الشيطان ، فيستمر على ما كان عليه ، مستصحبا للكراهة ، غير مشتغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة .
الرابعة : أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده عند جريان أسباب الرياء ، فيكون قد عزم على أنه مهما نزغ الشيطان زاد فيما هو فيه من الإخلاص ، والاشتغال بالله ، وإخفاء الصدقة والعبادة ؛ غيظا للشيطان وذلك هو الذي يغيظ الشيطان ويقمعه ويوجب يأسه وقنوطه حتى لا يرجع .
يروى عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له : إن فلانا يذكرك فقال : والله لأغيظن من أمره قيل ومن أمره ? قال : الشيطان : اللهم اغفر له ، أي : لأغيظنه بأن أطيع الله فيه .
ومهما عرف الشيطان من عبد هذه العادة كف عنه ؛ خيفة من أن يزيد في حسناته .
وقال إبراهيم التيمي إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم فلا يطعه ، وليحدث عند ذلك خيرا ، فإذا رآه كذلك تركه وقال أيضا : إذا رآك الشيطان مترددا طمع فيك ، وإذا رآك مداوما ملك وقلاك .
وضرب الحارث المحاسبي رحمه الله لهذه الأربعة مثالا أحسن فيه ، فقال : مثالهم كأربعة قصدوا مجلسا من العلم والحديث ؛ لينالوا به فائدة وفضلا وهداية ورشدا ، فحسدهم على ذلك ضال مبتدع ، وخاف أن يعرفوا الحق ، فتقدم إلى واحد فمنعه وصرفه عن ذلك ، ودعاه إلى مجلس ضلال فأبى فلما عرف إباءه شغله بالمجادلة ، فاشتغل معه ؛ ليرد ضلاله ، وهو يظن أن ذلك مصلحة له وهو غرض الضال ليفوت عليه بقدر تأخره .
فلما مر الثاني عليه نهاه واستوقفه فوقف ، فدفع في نحر الضال ، ولم يشتغل بالقتال ، واستعجل ، ففرح منه الضال بقدر توقفه للدفع فيه .
ومر به الثالث فلم يلتفت إليه ، ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله ، بل استمر على ما كان فخاب ، منه رجاؤه بالكلية .
فمر الرابع فلم يتوقف له ، وأراد أن يغيظه فزاد في عجلته ، وترك التأني في المشي ، فيوشك إن عادوا ومروا عليه مرة أخرى أن يعاود الجميع إلا هذا الأخير ؛ فإنه لا يعاود ؛ خيفة من أن يزداد فائدة باستعجاله .
فإن قلت فإذا كان الشيطان : لا تؤمن نزغاته فهل يجب الترصد له قبل حضوره للحذر منه انتظارا لوروده ، أم يجب التوكل على الله ليكون هو الدافع له ، أو يجب الاشتغال بالعبادة والغفلة عنه ؟ قلنا : اختلف الناس فيه على ثلاثة أوجه : فذهبت فرقة من أهل البصرة إلى أن الأقوياء قد استغنوا عن لأنهم انقطعوا إلى الله ، واشتغلوا بحبه فاعتزلهم الشيطان ، وأيس منهم ، وخنس عنهم كما أيس من ضعفاء العباد في الدعوة إلى الخمر والزنا ، فصارت ملاذ الدنيا عندهم وإن كانت مباحة كالخمر والخنزير ، فارتحلوا من حبها بالكلية فلم يبق للشيطان إليهم سبيل فلا حاجة بهم إلى الحذر . الحذر من الشيطان ؛
وذهبت فرقة من فمن أيقن بأن لا شريك لله في تدبيره فلا يحذر غيره ، ويعلم أن الشيطان ذليل مخلوق ليس ، له أمر ، ولا يكون إلا ما أراده الله ، فهو الضار والنافع والعارف يستحيي منه أن يحذر غيره ، فاليقين بالوحدانية يغنيه عن الحذر . أهل الشام إلى أن الترصد للحذر منه إنما يحتاج إليه من قل يقينه ، ونقص توكله ،
وقالت فرقة من أهل العلم : لا بد من الحذر من الشيطان ، وما ذكره البصريون من أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر وخلت قلوبهم عن حب الدنيا بالكلية ، فهو وسيلة الشيطان ، يكاد يكون غرورا ؛ إذ الأنبياء عليهم السلام لم يتخلصوا من وسواس الشيطان ونزغاته فكيف يتخلص غيرهم ؟! وليس كل وسواس الشيطان من الشهوات وحب الدنيا بل في صفات الله تعالى وأسمائه ، وفي تحسين البدع والضلال ، وغير ذلك ، ولا ينجو أحد من الخطر فيه ؛ ولذلك قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنه ليغان على قلبي مع أن شيطانه قد أسلم ولا يأمره إلا بخير .
فمن ظن أن اشتغاله بحب الله أكثر من اشتغال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام فهو مغرور ، ولم يؤمنهم ذلك من كيد الشيطان ؛ ولذلك لم يسلم منه آدم وحواء في الجنة التي هي دار الأمن والسرور بعد أن قال الله لهما : إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ومع أنه لم ينه إلا عن شجرة واحدة وأطلق له وراء ذلك ما أراد فإذا لم يأمن نبي من الأنبياء وهو في الجنة دار الأمن والسعادة من كيد الشيطان فكيف يجوز لغيره أن يأمن في دار الدنيا وهي منبع المحن والفتن ومعدن الملاذ والشهوات المنهي عنها ؟! وقال موسى عليه السلام فيما أخبر عنه تعالى هذا من عمل الشيطان ولذلك حذر الله منه جميع الخلق فقال الله تعالى : يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة وقال عز وجل : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم والقرآن من أوله إلى آخره تحذير من الشيطان فكيف يدعى الأمن منه ؟! وأخذ الحذر من حيث أمر الله به لا ينافي الاشتغال بحب الله ؛ فإن من الحب له امتثال أمره ، وقد أمر بالحذر من العدو كما أمر بالحذر من الكفار ، فقال تعالى : وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم وقال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم فإذا لزمك بأمر الله الحذر من العدو الكافر وأنت تراه فبأن يلزمك الحذر من عدو يراك ولا تراه أولى .
ولذلك قال ابن محيريز صيد تراه ولا يراك يوشك أن تظفر به وصيد ، يراك ولا تراه يوشك أن يظفر بك .
فأشار ، إلى الشيطان فكيف وليس في الغفلة عن عداوة الكافر إلا قتل هو شهادة وفي إهمال الحذر من الشيطان التعرض للنار والعقاب الأليم ، فليس من الاشتغال بالله الإعراض عما حذر الله .
وبه يبطل مذهب الفرقة الثانية في ظنهم أن ذلك قادح في التوكل ، فإن أخذ الترس والسلاح وجمع الجنود وحفر الخندق لم يقدح في توكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يقدح في التوكل الخوف مما خوف الله به ، والحذر مما أمر بالحذر منه ؟! وقد ذكرنا في كتاب التوكل ما يبين غلط من زعم أن معنى التوكل النزوع عن الأسباب بالكلية وقوله تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل لا يناقض امتثال التوكل مهما اعتقد القلب أن الضار والنافع والمحيي والمميت هو الله تعالى فكذلك يحذر الشيطان ويعتقد أن الهادي والمضل هو الله ويرى الأسباب وسائط مسخرة كما ذكرناه في التوكل .
وهذا ما اختاره الحارث المحاسبي رحمه الله وهو الصحيح الذي يشهد له نور العلم ، وما قبله يشبه أن يكون من كلام العباد الذين لم يغزر علمهم ، ويظنون أن ما يهجم عليهم من الأحوال في بعض الأوقات من الاستغراق بالله ، يستمر على الدوام ، وهو بعيد .