الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وبرهانه أنه لو انعدم لكان لا يخلو إما أن ينعدم بنفسه أو بمعدم يضاده ولو جاز أن ينعدم شيء يتصور دوامه لجاز أن يوجد شيء يتصور عدمه بنفسه ، فكما يحتاج طريان الوجود إلى سبب ، فكذلك يحتاج طريان العدم إلى سبب .

وباطل أن ينعدم بمعدم يضاده ; لأن ذلك المعدم لو كان قديما لما تصور الوجود معه .

وقد ظهر بالأصلين السابقين وجوده وقدمه فكيف كان وجوده في القدم ومعه ضده ؟ فإن كان الضد المعدم حادثا كان محالا إذ ليس الحادث في مضادته للقديم حتى يقطع وجوده بأولى من القديم في مضادته للحادث حتى يدفع وجوده بل الدفع أهون من القطع ، والقديم أقوى وأولى من الحادث .

التالي السابق


ثم شرع في ذكر الدليل العقلي، فقال (وبرهانه أنه لو انعدم لكان لا يخلو إما أن ينعدم بنفسه) بأن يكون انعدامه أثرا لقدرته (أو) ينعدم (بمعدم يضاده) فيمتنع وجوده معه، قال ابن أبي شريف: وسكت عن المثل والخلاف; لأنه [ ص: 98 ] لا يتوهم صلاحيتها؛ لغلبة انعدام المثل والخلاف (و) انعدامه بنفسه باطل؛ (لأنه لو جاز أن ينعدم شيء يتصور دوامه بنفسه لجاز أن يوجد شيء بنفسه، فكما يحتاج طريان الوجود إلى سبب، فكذلك يحتاج طريان العدم إلى سبب) وقرره ابن الهمام بوجه آخر، فقال: لأنه لما ثبت أنه الموجد الذي استندت إليه كل الموجودات، ثبت عدم استناد وجوده إلى غيره، فيلزم أن يكون وجوده له من نفسه، أي: اقتضت ذاته المقدسة اقتضاء تاما، فإذا ثبت أن وجوده مقتضى ذاته المقدسة استحال أن تؤثر ذاته عدمها; لأن ما بالذات -أي: ما تقتضيه الذات اقتضاء تاما- لا يتخلف عنها. اهـ .

وقد تختصر العبارة عن ذلك، فيقال: لأنه واجب الوجود، لا يقبل الانتفاء بحال؛ فيلزم بقاؤه كما يلزم قدمه، وإليه أشار ابن التلمساني، ومنهم من قال في برهان بقائه تعالى أنه لو لحقه العدم لزم أن يكون من جملة الممكنات التي يجوز عليها الوجود والعدم، وكل ممكن لا يكون وجوده إلا حادثا، تعالى الله عن ذلك، ويلزم الدور أو التسلسل، فتبين أن وجوب القدم يستلزم وجوب البقاء، وهو المطلوب (وباطل) أيضا (أن ينعدم بمعدم يضاده; لأن ذلك المعدم) أي: الضد المقتضى نفيه، إما قديم أو حادث، لا يجوز الأول؛ لأنه (لو كان قديما لما تصور الوجود معه) أي: لزم انتفاء وجود الباري تعالى مع ذلك الضد من الابتداء أصلا; لأن التضاد يمنع الاجتماع بين الشيئين اللذين اتصفا به، (وقد ظهر بالأصلين السابقين) الأول والثاني (وجوده) تعالى بنفسه (وقدمه) أزلا (فكيف كان وجوده في القدم ومعه ضده؟) أي: هذا محال؛ لما مر من أن التضاد يمنع الاجتماع .

(فإن كان الضد المعدم حادثا كان محالا) أي: ولا يجوز الثاني أيضا، وهو كون الضد حادثا (إذ ليس الحادث في مضادته) أي: باعتبار مضادته للقديم (حتى يقطع) أي: بحيث يقطع الحادث (وجوده) أي: وجود ضده القديم (بأولى من القديم في مضادته للحادث حتى يدفع) أي: بحيث يدفع القديم (وجوده) أي: وجود ضده الحادث (بل) القديم أولى بدفع وجود ضده من الحادث في قطع وجود ضده القديم ورفعه; لأن (الدفع أهون من القطع، والقديم أقوى من الحادث) .

وقرر هذا البرهان ابن التلمساني في "شرح اللمع" بأبسط من ذلك، فقال: عدم الشيء متى كان جائزا قديما، يكون معدوما؛ لانتفاء ما يوجده، أو لوجود ما ينفيه، وكل ما يتوقف وجوده عليه فهو شرط في وجوده، فلو انعدم لعدم ذلك لم يخل ذلك إما أن يكون حادثا أو قديما، ولا جائز أن يكون القديم مشروطا بشرط حادث؛ لما فيه من تقدم المشروط على الشرط، وإن كان قديما، فالقول في عدمه كالقول في عدم المشروط، ويتسلسل، وإن فرض عدمه لوجود ما ينفيه، فلا يخلو ذلك من المعدم، إما أن يعدمه بذاته أو بإيثاره واختياره، فإن أعدمه بذاته فلا يخلو إما أن يعدمه بطريق التضاد؛ فإن التضاد مفعول واحد من الجانبين، فليس إعدام الطارئ الحاصل لما فاته له بأولى من منع الحاصل الطارئ أولا بطريق التضاد، لا جائز أن يعدمه بطريق التضاد، فإن أعدمه لا بطريق التضاد فلا يخلو إما أن يقوم به أو لا، فإن قام به وهو مقتض لعدمه لزم أن يجامع وجوده عدمه، فإنه من حيث كونه محلا يستدعي أن يكون حاصلا موجودا، ومن حيث كونه أثرا يستدعي أن يكون معدوما، وإن لم يقم به فنسبته إليه وإلى غيره نسبة واحدة، فليس إعدامه بأولى من إعدامه بغيره، وإن أعدمه بإيثاره واختياره فالمؤثر المختار لا بد له من فعل، والعدم لاشيء، ومن فعل لا شيء لم يفعل شيئا، ولأن المعدم له أيضا إما أن يكون نفسه أو غيره، لا جائز أن يعدم نفسه ضرورة وجود الفاعل حال وجود فعله، فيجامع وجوده عدمه، ولا جائز أن يعدمه غيره؛ لقيام الدليل على وحدانيته، وقد قيل: إن العقلاء لم يتفقوا على مسألة نظرية إلا هذه المسألة، وهو أن القديم لا يعدم .




الخدمات العلمية