نعم ، له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال ، وهي وسيلة له إلى كمال العلم ، كسلامة أطرافه ، وقوة يده للبطش ورجله ، للمشي وحواسه ، للإدراك ؛ فإن هذه القوة آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم وقد يحتاج في استيفاء هذه القوى إلى القدرة بالمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن ، وذلك إلى قدر معلوم فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه ألبتة ، إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب ومن ظن ذلك كمالا فقد جهل فالخلق أكثرهم هالكون في غمرة هذا الجهل ؛ فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة ، وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى ، وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه كمال فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ، ولما طلبوه شغلوا به ، وتهالكوا عليه ، فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى ومن ملائكته وهو العلم والحرية ، أما وأما الحرية فالخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر تشبها بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة ، ولا يستهويهم الغضب فإن دفع آثار الشهوة والغضب عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة . العلم فما ذكرناه من معرفة الله تعالى
ومن صفات الكمال ، لله تعالى استحالة التغير والتأثر عليه ، فمن كان عن التغير والتأثر بالعوارض أبعد كان إلى الله تعالى أقرب ، وبالملائكة أشبه ، ومنزلته عند الله أعظم .
وهذا كمال ثالث سوى كمال العلم والقدرة ، وإنما لم نورده في أقسام الكمال ؛ لأن حقيقته ترجع إلى عدم ونقصان ، فإن التغير نقصان ؛ إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها ، والهلاك نقص في اللذات وفي صفات الكمال .
فإذا : الكمالات ثلاثة إن عددنا عدم التغير بالشهوات وعدم الانقياد لها كمالا ، ككمال العلم وكمال الحرية وأعني ، به عدم العبودية للشهوات وإرادة الأسباب ، الدنيوية ، وكمال القدرة للعبد ، طريق إلى اكتساب كمال العلم وكمال الحرية ، ولا طريق له إلى اكتساب كمال القدرة الباقية بعد موته ؛ إذ قدرته على أعيان الأموال وعلى استسخار القلوب والأبدان تنقطع بالموت ، ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت ، بل يبقيان كمالا فيه ووسيلة إلى القرب من الله تعالى .
فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان فأقبلوا على طلب كمال القدرة بالجاه والمال ، وهو الكمال الذي لا يسلم ، وإن سلم فلا بقاء له وأعرضوا عن كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبديا لا انقطاع له ، وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ، فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وهم الذين لم يفهموا قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقى كمالا في النفس والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب ، وهو كما مثله الله تعالى حيث قال : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض الآية ، وقال تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى قوله فأصبح هشيما تذروه الرياح وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا ، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات .
فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال ظني لا أصل له ، وأن من قصر الوقت على طلبه وظنه مقصودا فهو جاهل ، وإليه أشار أبو الطيب بقوله :
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر
إلا قدر البلغة منهما إلى الكمال الحقيقي اللهم اجعلنا ممن وفقته للخير وهديته بلطفك .