الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكل ، موجود فهو محب لذاته ، ولكمال ذاته ، ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته ، أو عدم صفات الكمال من ذاته .

وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل الموجودات فإن أكمل الكمال أن يكون وجود غيرك منك ، فإن لم يكن منك فأن تكون مستوليا عليه ، فصار الاستيلاء على الكل محبوبا بالطبع ؛ لأنه نوع كمال .

وكل موجود يعرف ذاته ، فإنه يحب ذاته ، ويحب كمال ذاته ، ويلتذ به ، إلا أن الاستيلاء على الشيء بالقدرة على التأثير فيه ، وعلى تغييره بحسب الإرادة ، وكونه مسخرا لك تردده كيف تشاء فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة معه إلا أن الموجودات منقسمة إلى ما لا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته .

وإلى ما يقبل التغيير ولكن لا يستولي عليه قدرة الخلق كالأملاك والكواكب وملكوت السموات ، ونفوس الملائكة والجن والشياطين ، وكالجبال والبحار .

وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها ، وما عليها من المعادن والنبات والحيوان ، ومن جملتها قلوب الناس ، فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد الحيوانات .

، فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات وإلى ما لا يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات ، أحب الإنسان أن يستولي على السموات بالعلم والإحاطة والاطلاع على أسرارها ؛ فإن ذلك نوع استيلاء ؛ إذ المعلوم المحاط به كالداخل تحت العلم ، والعالم كالمستولي عليه ؛ فلذلك أحب أن يعرف الله تعالى والملائكة والأفلاك والكواكب ، وجميع عجائب السموات وجميع عجائب ، البحار والجبال ، وغيرها ؛ لأن ذلك نوع استيلاء عليها ، والاستيلاء نوع كمال .

وهذا يضاهي اشتياق من عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها ، كمن يعجز عن وضع الشطرنج فإنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به ، وأنه كيف وضع وكمن يرى صنعة عجيبة في الهندسة أو الشعبذة أو جر الثقيل أو غيره وهو مستشعر في نفسه بعض العجز ، والقصور عنه ولكنه ، يشتاق إلى معرفة كيفيته ، فهو متألم ببعض العجز متلذذ ، بكمال العلم إن علمه .

وأما القسم الثاني وهو : الأرضيات التي يقدر الإنسان عليها ، فإنه يحب بالطبع أن يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد ، وهي قسمان أجساد وأرواح .

أما الأجساد فهي الدراهم والدنانير والأمتعة فيحب ، أن يكون قادرا عليها ، يفعل فيها ما يشاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع ؛ فإن ذلك قدرة ، والقدرة كمال ، والكمال من صفات الربوبية ، والربوبية محبوبة بالطبع ؛ فلذلك أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها في ملبسه ومطعمه وفي شهوات نفسه وكذلك طلب ، استرقاق العبيد ، واستعباد الأشخاص الأحرار ولو بالقهر والغلبة ؛ حتى يتصرف في أجسادهم وأشخاصهم بالاستسخار ، وإن لم يملك قلوبهم فإنها ربما ، لم تعتقد كماله ؛ حتى يصير محبوبا لها ويقوم القهر ، منزلته فيها ، فإن الحشمة القهرية أيضا لذيذة ؛ لما فيها من القدرة .

القسم الثاني : نفوس الآدميين وقلوبهم ، وهي أنفس ما على وجه الأرض ، فهو يحب أن يكون له استيلاء وقدرة عليها ؛ لتكون مسخرة له ، متصرفة تحت إشارته وإرادته ؛ لما فيه من كمال الاستيلاء ، والتشبه بصفات الربوبية ، والقلوب إنما تتسخر بالحب ، ولا تحب إلا باعتقاد الكمال ، فإن كل كمال محبوب لأن الكمال من الصفات الإلهية ، والصفات الإلهية كلها محبوبة بالطبع للمعنى الرباني من جملة معاني الإنسان ، وهو الذي لا يبليه الموت فيعدمه ، ولا يتسلط عليه التراب فيأكله ، فإنه محل الإيمان والمعرفة ، وهو الواصل إلى لقاء الله تعالى والساعي إليه فإذا معنى الجاه تسخير القلوب ومن تسخرت له القلوب كانت له قدرة واستيلاء عليها ، والقدرة والاستيلاء كمال ، وهو من أوصاف الربوبية .

فإذا محبوب القلب بطبعه الكمال بالعلم والقدرة ، والمال والجاه من أسباب القدرة ، ولا نهاية للمعلومات ، ولا نهاية للمقدورات ، وما دام يبقى معلوم أو مقدور فالشوق لا يسكن ، والنقصان لا يزول .

ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : منهومان لا يشبعان فإذا : مطلوب القلوب الكمال ، والكمال بالعلم والقدرة وتفاوت الدرجات فيه غير محصور ، فسرور كل إنسان ولذته بقدر ما يدركه من الكمال ، فهذا هو السبب في كون العلم والمال والجاه محبوبا ، وهو أمر وراء كونه محبوبا لأجل التوصل إلى قضاء الشهوات ، فإن هذه العلة قد تبقى مع سقوط الشهوات ، بل يحب الإنسان من العلوم ما لا يصلح للتوصل به إلى الأغراض ، بل ربما يفوت عليه جملة من الأغراض والشهوات ، ولكن الطبع يتقاضى طلب العلم في جميع العجائب والمشكلات ؛ لأن في العلم استيلاء على المعلوم وهو ، نوع من الكمال الذي هو من صفات الربوبية ، فكان محبوبا بالطبع ، إلا أن في حب كمال العلم والقدرة أغاليط لا بد من بيانها إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


(وكل موجود يعرف ذاته، فإنه يحب ذاته، ويحب كمال ذاته، ويلتذ بها، إلا أن الاستيلاء على الشيء يكون بالقدرة على التأثير فيه، وعلى تغيره بحسب الإرادة، وكونه مسخرا لك) أي: مذللا منقادا، تردده كيف تشاء، فأحب الإنسان أن يكون له الاستيلاء على الأشياء الموجودة معه .

(إلا أن الموجودات منقسمة إلى ما لا يقبل التغير في نفسه) أي: ذاته (كذات الله تعالى وصفاته) فإنها لا تقبل تغيرا أصلا (وإلى ما يقبل التغير) في نفسه (ولكن لا تستولي عليه قدرة الخلق كالأفلاك والكواكب) المركوزة فيها (وملكوت السموات، ونفوس الملائكة والجن والشياطين، وكالجبال والبحار) فإنها قابلة للتغير، ولكن لا استيلاء لقدرة الخلق على تغيرها عن هيئاتها الموجودة فيها .

(وإلى ما يقبل التغير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها، وما عليها من المعادن والنبات والحيوان، ومن جملتها قلوب الناس، فإنها تقبل التأثير والتغير كأجسادهم وأجساد سائر الحيوان، فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات وإلى ما لا يقدر عليه كذات الله والملائكة والسموات، أحب الإنسان أن يستولي على السموات بالعلم والإحاطة والاطلاع على أسرارها؛ فإن ذلك نوع استيلاء؛ إذ [ ص: 244 ] المعلوم المحاط به كالداخل تحت العلم، والعالم كالمستولي عليه؛ فلذلك أحب أن يعرف الله والملائكة والأفلاك والكواكب، وجميع عجائب السموات، وعجائب البحار والجبال، وغيرها؛ لأن ذلك نوع استيلاء عليها، والاستيلاء نوع كمال، وهذا يضاهي اشتياق من عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها، كمن يعجز عن وضع الشطرنج) وهي اللعبة المعروفة، فارسي معرب، وأصله صد رنك، أي: مائة حيلة، وواضعها صمصمة بن دامر، حكيم من حكماء الهند، لملك من ملوكهم (فإنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به، وأنه كيف وضع) ولماذا وضع (وكمن يرى صنعة عجيبة في الهندسة) علم معروف، وأصله أندازه، ومعناه تقدير مجاري القني (أو الشعبذة) وهي الحيل (أو جر الثقيل) وهو علم معروف من الهندسة (أو غيره وهو مستشعر في نفسه نقص العجز، والقصور عنه، لكنه يشتاق إلى معرفة كيفيته، فهو متألم بنقص العجز، وملتذ بكمال العلم إن علمه .

وأما القسم الثاني: وهي الأرضيات التي يقدر الإنسان عليها، فإنه يحب بالطبع أن يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد، وهي قسمان أجساد وأرواح، أما الأجساد فهي الدراهم والدنانير والأمتعة، فيحب أن يكون قادرا عليها، يفعل فيها ما يشاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع؛ فإن ذلك) نوع تصرف فيها وهو (قدرة، والقدرة كمال، والكمال من صفات الربوبية، والربوبية محبوبة بالطبع؛ فلذلك أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها في مطعمه وملبسه وفي شهوات نفسه، وكذلك طالب استرقاق العبيد، واستعباد أشخاص الأحرار ولو بالقهر والغلبة؛ حتى يتصرف في أجسادهم وأشخاصهم بالاستسخار، وإن لم يملك قلوبهم، فانهار بما لم تعتقد كماله؛ حتى يصير محبوبا لها، وتقوم منزلته بها، فإن الحشمة القهرية أيضا لذيذة؛ لما فيها من القدرة) والتمكن كيف شاء .

(القسم الثاني: نفوس الآدميين وقلوبهم، وهي أنفس ما على وجه الأرض، فهو يحب أن يكون له استيلاء وقدرة عليها؛ لتكون مسخرة له، متصرفة) جارية (تحت إشارته وإرادته؛ لما فيه من كمال الاستيلاء، والتشبه بصفات الربوبية، والقلوب إنما تتسخر بالحب، ولا تحب إلا باعتقاد الكمال، فإن كل كمال محبوب) ومرغوب إليه (لأن الكمال من الصفات الإلهية، والصفات الإلهية كلها محبوبة بالطبع للمعنى الرباني من جملة معانى الإنسان، وهو الذي لا يبليه الموت فيعدمه، ولا يتسلط عليه التراب فيأكله، فإنه محل الإيمان والمعرفة، وهو الواصل إلى لقاء الله -عز وجل- والساعي إليه، فإذا: معنى الجاه: تسخر القلوب) وتذللها وانقيادها .

(ومن تسخرت القلوب له كانت له قدرة واستيلاء عليها، والقدرة والاستيلاء كمال، وهو من أوصاف الربوبية، فإذا: محبوب القلب بطبعه الكمال بالعلم والقدرة، والمال والجاه من أسباب القدرة، ولا نهاية للمعلومات، ولا نهاية للمقدورات، وما دام يبقى معلوم أو مقدور فالشوق لا يسكن، والنقصان لا يزول؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "منهومان لا يشبعان) منهوم المال ومنهوم العلم" وقد تقدم قريبا .

(فإذا: مطلوب القلب الكمال، والكمال) إنما يتم (بالعلم والقدرة [ ص: 245 ] وتفاوت الدرجات فيه غير محصور، فسرور كل إنسان ولذته بقدر ما يدركه من الكمال، فهذا هو السبب في كون العلم والمال والجاه محبوبا، وهو أمر وراء كونه محبوبا لأجل التوصل إلى قضاء الشهوات، فإن هذه العلة قد تبقى مع سقوط الشهوات، بل يحب الإنسان من العلوم ما لا يصلح للتوصل به إلى الأغراض، بل ربما يفوت عليه جملة من الأغراض والشهوات، ولكن الطبع يتقاضى طلب العلم في جميع العجائب والمشكلات؛ لأن في العلم استيلاء على المعلوم) وهو الإحاطة بجزئياته (وهو نوع من الكمال، الذي هو نوع من صفات الربوبية، فكان محبوبا بالطبع، إلا أن في حب كمال العلم والقدرة أغاليط) جمع أغلوطة، وهي ما توقع الإنسان في غلط (فلا بد من بيانها إن شاء الله) .




الخدمات العلمية