بيان سبب كون الجاه محبوبا بالطبع حتى لا يخلو عنه قلب إلا بشديد .
المجاهدة .
اعلم أن بل يقتضي أن يكون أحب من المال ، كما يقتضي أن يكون الذهب أحب من الفضة مهما تساويا في المقدار ، وهو أنك تعلم أن الدراهم والدنانير لا غرض في أعيانهما إذ لا تصلح لمطعم ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس ، وإنما هي والحصباء بمثابة واحدة ولكنهما محبوبان لأنهما ؛ وسيلة إلى جميع المحاب ، وذريعة إلى قضاء الشهوات ، فكذلك الجاه ؛ لأن معنى الجاه ملك القلوب ، وكما أن ملك الذهب والفضة يفيد قدرة يتوصل الإنسان بها إلى سائر أغراضه فكذلك ملك القلوب من الأحرار والقدرة على استسخارها يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض ، فالاشتراك في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة ، وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه أحب من المال ولملك الجاه . ترجيح على ملك المال من ثلاثة أوجه : السبب الذي يقتضي كون الذهب والفضة وسائر أنواع الأموال محبوبا هو بعينه يقتضي كون الجاه محبوبا ،
الأول : أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصل بالمال إلى الجاه ، فالعالم أو الزاهد الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال ، وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف بصفة كمال إذا وجد كنزا ، ولم يكن له جاه يحفظ ماله ، وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له ، فإذا : الجاه آلة ووسيلة إلى المال ، فمن ملك الجاه فقد ملك المال ، ومن ملك المال لم يملك الجاه بكل حال ؛ فلذلك صار الجاه أحب .
الثاني : هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلمة ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس والخزائن ويتطرق إليه أخطار كثيرة وأما القلوب إذا ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات ؛ فهي على التحقيق خزائن عتيدة لا يقدر عليها السراق ، ولا تتناولها أيدي النهاب والغصاب وأثبت الأموال العقار ولا يؤمن فيه الغصب والظلم ولا يستغني عن المراقبة والحفظ ، وأما خزائن القلوب فهي محفوظة محروسة بأنفسها وذو الجاه في أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها .
نعم إنما تغصب القلوب بالتصريف وتقبيح الحال ، وتغيير الاعتقاد فيما صدق به من أوصاف الكمال ، وذلك مما يهون دفعه ، ولا يتيسر على محاولة فعله .
الثالث : أن ملك القلوب يسري وينمى ويتزايد من غير حاجة إلى تعب ومقاساة فإن القلوب إذا أذعنت لشخص ، واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها ، فيصف ما يعتقده لغيره ، ويقتنص ذلك القلب أيضا له ولهذا المعنى يحب الطبع الصيت وانتشار الذكر .
لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ، ودعاها إلى الإذعان والتعظيم ، فلا يزال يسري من واحد إلى واحد ويتزايد ، وليس له مرد معين وأما المال فمن ملك منه شيئا فهو مالكه ، ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة والجاه أبدا في النماء بنفسه ، ولا مرد لموقعه ، والمال واقف ، ولهذا إذا عظم الجاه ، وانتشر الصيت ، وانطلقت الألسنة بالثناء استحقرت الأموال في مقابلته . فهذه مجامع ترجيحات الجاه على المال .
وإذا فصلت كثرت وجوه الترجيح .
فإن قلت : فالإشكال قائم في المال والجاه جميعا ، فلا ينبغي أن يحب الإنسان المال والجاه .
نعم ، القدر الذي يتوصل به إلى جلب الملاذ ودفع المضار معلوم ، كالمحتاج إلى الملبس والمسكن والمطعم أو كالمبتلى بمرض أو بعقوبة إذا كان لا يتوصل إلى دفع العقوبة عن نفسه إلا بمال أو جاه ، فحبه للمال والجاه معلوم ؛ إذ كل ما لا يتوصل إلى المحبوب إلا به فهو محبوب ، وفي الطباع أمر عجيب وراء هذا وهو حب جمع الأموال وكنز الكنوز وادخار الذخائر ، واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات ، حتى لو كان للعبد واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا .