ولأجل بركة الفقر وشؤم الغنى آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم الفقر لنفسه ولأهل بيته حتى روي عن رضي الله عنه أنه قال : عمران بن حصين كانت لي من رسول الله منزلة وجاه ، فقال : يا إن لك عندنا منزلة وجاها ، فهل لك في عيادة عمران فقلت : نعم ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، فقام وقمت معه حتى وقفت بباب منزل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ? فاطمة فقرع الباب ، وقال : السلام عليكم ، أأدخل ? فقالت ادخل يا رسول الله ، قال : أنا ومن معي ? قالت : ومن معك يا رسول الله ? فقال : فقالت : والذي بعثك بالحق نبيا ما علي إلا عباءة فقال : اصنعي بها هكذا وهكذا ، وأشار بيده ، فقالت : هذا جسدي فقد واريته فكيف برأسي ، فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة ، فقال : شدي بها على رأسك ، ثم أذنت له فدخل ، فقال : السلام عليك يا بنتاه ، كيف أصبحت ? قالت : أصبحت والله وجعة وزادني ، وجعا على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أجهدني الجوع ، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لا تجزعي يا بنتاه ، فوالله ما ذقت طعاما منذ ثلاثة ، وإني لأكرم على الله منك ، ولو سألت ربي لأطعمني ولكني ، آثرت الآخرة على الدنيا . عمران بن حصين ،
ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها : أبشري فوالله ؛ فقالت : فأين إنك لسيدة نساء أهل الجنة ، آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران ؟ فقال : آسية سيدة نساء عالمها ، ومريم سيدة نساء عالمها ، سيدة نساء عالمها ، وأنت سيدة نساء عالمك ؛ إنكن في بيوت من قصب ، لا أذى فيها ولا صخب ، ثم قال لها : اقنعي بابن عمك ؛ فوالله لقد زوجتك سيدا في الدنيا سيدا في الآخرة وخديجة .
فانظر الآن إلى حال فاطمة رضي الله عنها وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف آثرت الفقر وتركت المال .
ومن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم وما ورد من أخبارهم وآثارهم لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات إذ أقل ما فيه من أداء الحقوق والتوقي من الشبهات والصرف إلى الخيرات اشتغال الهم ، بإصلاحه وانصرافه عن ذكر الله ؛ إذ لا ذكر إلا مع الفراغ ، ولا فراغ مع شغل المال .
وقد روي عن جرير عن ليث قال : صحب رجل عيسى ابن مريم عليه السلام فقال : أكون معك وأصحبك ، فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر ، فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة ، فأكلا رغيفين وبقي رغيف ثالث ، فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف ، فقال للرجل : من أخذ الرغيف ? فقال : لا أدري ، قال فانطلق : ومعه صاحبه فرأى ظبية ومعها خشفان لها قال ، فدعا أحدهما فأتاه ، فذبحه فاشتوى منه ، فأكل هو وذلك الرجل ، ثم قال للخشف قم بإذن الله ، فقام ، فذهب ، فقال للرجل : أسألك بالذي أراك هذه الآية : من أخذ الرغيف ? فقال لا : أدري ثم انتهيا إلى وادي ماء ، فأخذ عيسى بيد الرجل فمشيا على الماء ، فلما جاوزا قال له : أسألك بالذي أراك هذه الآية : من أخذ الرغيف فقال : لا أدري ، فانتهيا إلى مفازة ، فجلسا ، فأخذ عيسى عليه السلام يجمع ترابا وكثيبا ، ثم قال : كن ذهبا بإذن الله تعالى ، فصار ذهبا فقسمه ثلاثة أثلاث ثم قال : ثلث لي ، وثلث لك ، وثلث لمن أخذ الرغيف ، فقال : أنا الذي أخذت الرغيف فقال كله لك وفارقه عيسى عليه السلام فانتهى إليه رجلان في المفازة ومعه المال ، فأرادا أن يأخذاه منه ، ويقتلاه ، فقال : هو بيننا أثلاثا ، فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري لنا طعاما نأكله ، قال : فبعثوا أحدهم ، فقال الذي بعث : لأي شيء أقاسم هؤلاء هذا المال ? لكني أضع في هذا الطعام سما فأقتلهما ، وآخذ المال وحدي ، قال : ففعل ، وقال ذانك الرجلان : لأي شيء نجعل لهذا ثلث المال ، ولكن إذا رجع قتلناه واقتسمنا المال بيننا قال فلما رجع إليهما قتلاه وأكلا الطعام فماتا فبقي ذلك المال في المفازة ، وأولئك الثلاثة عنده قتلى ، فمر بهمعيسى عليه السلام على تلك الحالة فقال لأصحابه : هذه الدنيا فاحذروها .
وحكي أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس بأيديهم شيء مما يستمتع به الناس من دنياهم قد احتفروا قبورا ، فإذا أصبحوا تعهدوا تلك القبور وكنسوها وصلوا عندها ورعوا ، البقل كما ترعى البهائم ، وقد قيض لهم في ذلك معايش من نبات الأرض وأرسل ، ذو القرنين إلى ملكهم فقال له : أجب ذا القرنين ، فقال ما لي : إليه حاجة ، فإن كان له حاجة فليأتني ، فقال ذو القرنين : صدق ، فأقبل إليه ذو القرنين ، وقال له : أرسلت إليك لتأتيني فأبيت ، فها أنا قد جئت ، فقال : لو كان لي إليك حاجة لأتيتك ، فقال له ذو القرنين مالي : أراكم على حالة لم أر أحدا من الأمم عليها ، قال : وما ذاك ? قال : ليس لكم دنيا ولا شيء ، أفلا اتخذتم الذهب والفضة فاستمتعتم بهما ? قالوا : إنما كرهناهما ؛ لأن أحدا لم يعط منهما شيئا إلا تاقت نفسه ودعته إلى ما هو أفضل منه .
فقال : ما بالكم قد احتفرتم قبورا فإذا أصبحتم تعاهدتموها فكنستموها وصليتم عندها ? قالوا : أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل .
قال : وأراكم لا طعام لكم إلا البقل من الأرض ، أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها وركبتموها فاستمتعتم بها قالوا : كرهنا أن نجعل بطوننا قبورا لها ، ورأينا في نبات الأرض بلاغا ، وإنما يكفي ابن أدنى العيش من الطعام وأي ما جاوز الحنك من الطعام لم نجد له طعما كائنا ما كان من الطعام ، ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين فتناول جمجمة فقال يا : ذا القرنين أتدري من هذا ? قال : لا ، ومن هو ? قال : ملك من ملوك الأرض ، أعطاه الله سلطانا على أهل الأرض فغشم وظلم وعتا فلما رأى الله سبحانه ذلك منه حسمه بالموت فصار كالحجر الملقى وقد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته .
ثم تناول جمجمة أخرى بالية ، فقال يا : ذا القرنين هل تدري من هذا ? قال : لا أدري ، ومن هو ? قال : هذا ملك ملكه الله بعده ، قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالناس من الغشم والظلم والتجبر ، فتواضع وخشع لله عز وجل وأمر بالعدل في أهل مملكته ، فصار كما ترى ، قد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته .
ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين ، فقال :
وهذه الجمجمة كأن قد كانت كهذين فانظر يا ذا القرنين ما أنت صانع فقال له ذو القرنين : هل لك في صحبتي ، فأتخذك أخا ووزيرا وشريكا فيما آتاني الله من هذا المال ? قال : ما أصلح أنا وأنت في مكان ، ولا أن نكون جميعا ، قال ذو القرنين : ولم قال : من أجل أن الناس كلهم لك عدو ولي صديق ، قال : ولم ? قال : ولا أجد أحدا يعاديني لرفضي لذلك ولما عندي من الحاجة وقلة الشيء ، قال : فانصرف عنه يعادونك لما في يديك من الملك والمال والدنيا ، ذو القرنين متعجبا منه ومتعظا به فهذه الحكايات تدلك على آفات الغنى مع ما قدمناه من قبل وبالله التوفيق .
تم كتاب ذم المال والبخل بحمد الله تعالى وعونه ويليه كتاب ذم الجاه والرياء .