بيان ذم الغنى ومدح الفقر .
اعلم أن الناس قد اختلفوا في تفضيل وقد أوردنا ذلك في كتاب الفقر والزهد وكشفنا عن تحقيق الحق فيه ولكنا ، في هذا الكتاب ندل على أن الفقر أفضل وأعلى من الغنى على الجملة من غير التفات إلى تفصيل الأحوال ونقتصر فيه على حكاية فصل ذكره الحارث المحاسبي رضي الله عنه في بعض كتبه في الرد على بعض العلماء من الأغنياء ؛ حيث احتج بأغنياء الصحابة ، وبكثرة مال الغني الشاكر على الفقير الصابر ، وشبه نفسه بهم عبد الرحمن بن عوف والمحاسبي رحمه الله حبر الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس ، وآفات الأعمال ، وأغوار العبادات وكلامه ، جدير بأن يحكى على وجهه .
وقد قال بعد كلام له في الرد على علماء السوء بلغنا أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال : فيا سوء ما تحكمون ، تتوبون بالقول والأماني ، وتعملون بالهوى ، ولا يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة بحق أقول لكم : لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة كذلك ، أنتم . يا علماء السوء ، تصومون وتصلون وتصدقون ، ولا تفعلون ما تؤمرون ، وتدرسون ما لا تعملون ،
تخرجون الحكم من أفواهكم ، ويبقى الغل في صدوركم ، يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ، ولا تنقطع منها رغبته ، بحق أقول لكم : إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم : أفسدتم آخرتكم ، فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة ، فأي الناس أخسر منكم لو تعلمون ؟! ويلكم حتام ! تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محل المتحيرين كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم مهلا مهلا ! ويلكم ! ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم ؟! كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة معطلة ، يا عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام ، توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم ، فتلقيكم على وجوهكم ، ثم تكبكم على مناخركم ، ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ، ثم تدفعكم من خلفكم حتى تسلمكم إلى الملك الديان عراة فرادى فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم .
ثم قال الحارث رحمه الله إخواني ! فهؤلاء علماء السوء ، شياطين الإنس وفتنة ، على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة وأذلوا الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين ، وفي الآخرة هم الخاسرون ، أو يعفو الكريم بفضله .