الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
والإيثار أعلى درجات السخاء .

وكان ذلك من دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سماه الله تعالى عظيما ، فقال تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم وقال سهل بن عبد الله التستري قال موسى عليه السلام : يا رب ، أرني بعض درجات محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته فقال : يا موسى إنك لن تطيق ذلك ، ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك ، وعلى جميع خلقي ، قال فكشف له عن ملكوت السموات ، فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها ، وقربها من الله تعالى ، فقال يا رب بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة ? قال : بخلق اختصصته به من بينهم ، وهو الإيثار يا موسى ، لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتا من عمره إلا استحييت من محاسبته ، وبوأته من جنتي حيث يشاء وقيل : خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه ، غلام أسود يعمل فيه إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص ، فأكله ، ثم رمى إليه الثاني ، والثالث ، فأكله ، وعبد الله ينظر إليه فقال : يا غلام ، كم قوتك كل يوم ? قال : ما رأيت ، قال : فلم آثرت به هذا الكلب قال : ما هي بأرض كلاب ; إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا ، فكرهت أن أشبع وهو جائع ، قال : فما أنت صانع اليوم ? قال : أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر ألام : على السخاء ? إن هذا الغلام لأسخى مني ، فاشترى الحائط والغلام ، وما فيه من الآلات ، فأعتق الغلام ، ووهبه منه .

وقال عمر رضي الله عنه أهدى إلي رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة ، فقال : إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث به إليه فلم يزل واحد يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ، ورجع إلى الأول .

وبات علي كرم الله وجهه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوحى الله تعالى إلى جبريل ، وميكائيل عليهما السلام : إني آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختارا ؟ كلاهما الحياة ، وأحباها ، فأوحى الله عز وجل إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه بنفسه ، ويؤثره بالحياة ! اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل عليه السلام يقول : بخ بخ ، من مثلك يا ابن أبي طالب ، والله تعالى يباهي بك الملائكة ? فأنزل الله تعالى : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد .

وعن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفسا ، وكانوا في قرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لم تشبع جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج ، وجلسوا للطعام فلما رفع ، فإذا الطعام بحاله ، ولم يأكل أحد منه شيئا ؛ إيثارا لصاحبه على نفسه .

وروي أن شعبة جاءه سائل وليس ، عنده شيء ، فنزع خشبة من سقف بيته ، فأعطاه ، ثم اعتذر إليه وقال حذيفة العدوي انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء ، وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، ومسحت به وجهه ، فإذا أنا به ، فقلت : أسقيك ، فأشار إلي أن نعم ، فإذا رجل يقول : آه ، فأشار ابن عمي إلي أن انطلق به إليه ، فجئته ، فإذا هوهشام بن العاص فقلت : أسقيك ، فسمع به آخر ، فقال : آه فأشار هشام انطلق به إليه ، فجئته ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات فرجعت إلى ابن عمي ، فإذا هو قد مات رحمة الله عليهم أجمعين .

وقال عباس بن دهقان : ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلا بشر بن الحرث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة ، فنزع قميصه وأعطاه إياه ، واستعار ثوبا ، فمات فيه .

وعن ، بعض الصوفية ، قال : كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة ، وخرجنا إلى باب الجهاد ، فتبعنا كلب من البلد ، فلما بلغنا ظاهر الباب إذا نحن بدابة ميتة ، فصعدنا إلى موضع عال ، وقعدنا .

فلما نظر الكلب إلى الميتة رجع إلى البلد ، ثم عاد بعد ساعة ، ومعه مقدار عشرين كلبا ، فجاء إلى تلك الميتة ، وقعد ناحية ، ووقعت الكلاب في الميتة فما زالت تأكلها ، وذلك الكلب قاعد ينظر إليها حتى أكلت الميتة ، وبقي العظم ، ورجعت الكلاب إلى البلد ، فقام ذلك الكلب .

وجاء إلى تلك العظام ، فأكل مما بقي عليها قليلا ، ثم انصرف .

وقد ذكرنا جملة من أخبار الإيثار ، وأحوال الأولياء في كتاب الفقر والزهد فلا حاجة إلى الإعادة ههنا وبالله التوفيق وعليه التوكل فيما يرضيه عز وجل .

التالي السابق


(والإيثار أعلى درجات السخاء، وكان ذلك من دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، أي: من طريقته (حتى سماه الله تعالى عظيما، فقال: وإنك لعلى خلق عظيم ) ، وقد تقدم الكلام على هذه الآية في كتاب رياضة النفس .

(وقال) أبو محمد (سهل بن عبد الله) التستري - رحمه الله تعالى - (قال موسى - عليه السلام -: يا رب، أرني بعض درجات محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته، قال: يا موسى إنك لن تطيق ذلك، ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك، وعلى جميع خلقي، قال) الراوي (فكشف له عن ملكوت السماء، فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها، وقربها من الله - عز وجل -، فقال: يا رب، لماذا بلغت به إلى هذه الكرامة؟ قال: بخلق اختصصته به من بينهم، وهو الإيثار يا موسى، لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتا من عمره إلا استحييت من محاسبته، وبوأته من جنتي حيث يشاء) نقله صاحب القوت .

(وقيل: خرج عبد الله [ ص: 202 ] بن جعفر) بن أبي طالب (إلى ضيعة له) خارج المدينة (فنزل على نخيل قوم، وفيهم غلام أسود) اللون (يعمل فيه) ، أي: يخدم الأرض؛ (إذ أتي الغلام بقوته) ، وهو ثلاثة أرغفة (فدخل الحائط) ، أي: البستان (كلب) (ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص، فأكله، ثم رمى إليه بالثاني، والثالث، فأكله، وعبد الله) بن جعفر (ينظر إليه) من بعيد (فقال: يا غلام، كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت، قال: فلم آثرت به هذا الكلب؟ فقال: ما هي بأرض كلاب; إنه) غريب (جاء من مسافة بعيدة جائعا، فكرهت رده، قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا) جوعا (فقال عبد الله بن جعفر: إلام على السخاء؟ إن هذا لأسخى مني، فاشترى الحائط والغلام، وما فيه من الآلات، فأعتق الغلام، ووهبه منه) ، أي: الحائط، وما فيه .

(وقال عمر) - رضي الله عنه -: (أهدى إلي رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة، فقال: إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث به إليه) ، فلما وصل إليه، قال: إن أخي فلانا كان أحوج مني إليه فبعث به إليه (فلم يزل يبعث به كل واحد إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات، ورجع إلى الأول) نقله صاحب القوت .

(وبات علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم) عند مخرجه إلى الغار (فأوحى الله تعالى إلى جبريل، وميكائيل - عليهما السلام -: إني آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، وأحباها، فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة! اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه) ، فهبطا (فكان جبريل) - عليه السلام - (عند رأسه، وميكائيل) - عليه السلام - (عند رجليه، وجبريل - عليه السلام - ينادي: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب، والله تعالى يباهي بك الملائكة؟ فأنزل الله - عز وجل -: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد ) .

قال العراقي: رواه أحمد من حديث ابن عباس: شرى علي نفسه، ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نام مكانه... الحديث، وليس فيه ذكر جبريل، وميكائيل، ولم أقف لهذه الزيادة على أصل، وفيه أبو بلج، مختلف فيه، والحديث منكر، ورواه الحاكم في المستدرك، وأعله عبد الغني بن سعيد في كتاب إيضاح الإشكال .

(وعن أبي الحسن الأنطاكي) له ذكر في الحلية، وفي الرسالة (أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفسا، وكانوا في قرية بقرب الري) إحدى مدن خراسان (ولهم أرغفة معدودة لم تشبع جميعهم، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج، وجلسوا للطعام) ، وأوهم كل واحد صاحبه أنه يأكل (فلما رفع، فإذا الطعام بحاله، ولم يأكل واحد منهم شيئا؛ إيثارا لصاحبه على نفسه .

وروي أن شعبة) بن الحجاج بن الورد العتكي ، أبا بسطام الواسطي، ثم البصري، أمير المؤمنين في الحديث، وكان من العباد الزهاد، مات سنة ستين (جاءه سائل، ولم يكن عنده شيء، فنزع خشبة من سقف بيته، فأعطاه، ثم اعتذر إليه) ، وقال صاحب الرسالة: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: كان الأستاذ أبو سهل الصعلوكي يتوضأ يوما في صحن داره، فدخل إنسان، فسأله شيئا، ولم يحضره شيء، فقال: اصبر حتى أفرغ، فصبر، فلما فرغ، قال: خذ القمقمة، وخرج، ثم صبر حتى بعد، فصاح، وقال: دخل إنسان وأخذ القمقمة، فمشوا خلفه، فلم يدركوه، وإنما فعل ذلك; لأن أهل المنزل كانوا يلومونه على البذل .

(وقال حذيفة العدوي) هكذا في سائر النسخ، ولم أجد له ذكرا في الصحابة، ولعل الصواب: وقال أبو حذيفة في المبتدأ، عن العدوي ، قال بعض بني المغيرة: (انطلقت يوم اليرموك) موضع بالشام، وغزوته معروفة (لطلب ابن عم لي) [ ص: 203 ] في القتلى (ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، ومسحت به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك، فأشار أن نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمي إلي أن انطلق به) ، أي: بالماء (إليه، قال: فجئته، فإذا هو هشام بن العاص) أخو عمرو بن العاص، قال ابن المبارك في الزهد: عن جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: مر عمرو بن العاص بنفر من قريش، فذكروا هشاما، فقالوا: أيهما أفضل؟ فقال عمرو: شهدت أنا وهشام اليرموك، فقلنا: نسأل الله الشهادة، فلما أصبحنا حرمتها، ورزقها، ولكن ذكر موسى بن عقبة، وغيره أنه استشهد بأجنادين (فقلت: أسقيك، فسمع به آخر، فقال: آه فأشار هشام انطلق به إليه، فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي، فإذا هو قد مات) ، وقد ذكر أصحاب المغازي أنه استشهد باليرموك عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمر، وسهل بن الحارث، والحارث بن هشام، وجماعة من بني المغيرة، فأتوا بماء، وهم صرعى، فتدافعوا حتى ماتوا، ولم يذوقوا الماء، وأتي عكرمة بالماء، فنظر إلى سهيل ينظر إليه، فقال: ابدأ بهذا، ونظر لسهل بن الحارث ينظر إليه، فقال: ابدأ بهذا، فماتوا كلهم قبل أن يشربوا، فمر بهم خالد بن الوليد، فقال: بنفسي أنتم .

(وقال عباس بن دهقان: ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها) ، أي: عاريا خالصا (إلا بشر بن الحرث) الحافي (فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة، فنزع قميصه فأعطاه إياه، واستعار ثوبا، فمات فيه، و) حكي (عن بعض الصوفية، قال: كنا بطرسوس) مدينة على ساحل البحر من طرف الشام، وهي بالإقليم المسمى بسين، وكانت تغزى من بلاد الروم (فاجتمعنا جماعة، وخرجنا إلى باب الجهاد، فتبعنا كلب من البلد، فلما بلغنا باب الجهاد إذا نحن بدابة ميتة، فصعدنا إلى موضع خال، وقعدنا، فلما نظر الكلب إلى الميتة رجع إلى البلد، ثم عاد بعد ساعة، ومعه مقدار عشرين كلبا، فجاء إلى تلك الميتة، وقعد ناحية، ووقعت الكلاب في الميتة) تنهشها (فما زالت تأكل، وذلك الكلب قاعد ينظر إليها حتى أكلت الميتة، وبقي ذلك العظم، ورجعت الكلاب إلى البلد، فقام ذلك الكلب، وجاء إلى تلك العظام، فأكل مما بقي على العظم قليلا، ثم انصرف) ، فهذا من إيثاره (وقد ذكرنا جملة من أخبار الإيثار، وأحوال الأولياء في كتاب الزهد والفقر، فلا نعيده) .



الخدمات العلمية