الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فضيلة التعلم .

أما الآيات فقوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين وقوله عز وجل فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم : " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة " وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع "

التالي السابق


(في فضيلة التعلم)

استدل فيها بآيتين من كتاب الله عز جل فقال: (أما الآيات) فإنها في كتاب الله تعالى كثيرة مما يدل على فضيلته، ولكن وقع الاقتصار منها على آيتين؛ لاشتمالهما على المقصود الأعظم:

الأولى: (قوله تعالى) : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ( ليتفقهوا في الدين ) ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون أي: ليتعلموا الفقه في الدين، ندب الله تعالى المؤمنين إلى التفقه في الدين، وهو تعلمه، وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم، وهو التعليم، وسيأتي الكلام على هذه الآية في فضيلة التعليم؛ فإن الشيخ رحمه الله لما رأى الآية متضمنة على الفضيلتين أوردها في موضعين؛ استدلالا على مطلوبه .

(والثانية) : قوله تعالى: ( فاسألوا أهل الذكر) أي: تعلموا منهم، ولا يكون التعليم إلا بالسؤال ( إن كنتم لا تعلمون ) والمراد بأهل الذكر أهل العلم من كل أمة، وقيل: أهل القرآن، وقيل: أهل الكتب القديمة، أي: ممن آمن منهم، قاله السمين .

ثم إن التعلم هو تنبيه النفس لتصور المعاني، كما أن التعليم تنبيهها لتصويرها، وقد تقدم بيان ذلك .

(وأما الأخبار) الدالة على فضيلة التعلم فهي كثيرة، اقتصر منها الشيخ -رضي الله عنه- على عشرة أحاديث ما بين صحاح وحسان وضعاف وموضوعة على قول، فالأول حسن أو صحيح، والثاني صحيح، والثامن موضوع، والباقي ضعاف، كما سيأتي بيان ذلك تفصيلا .

أما الحديث الأول: (فقوله عليه) الصلاة و (السلام: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة") قال العراقي: ورد من حديث أبي الدرداء، وأبي هريرة.

أما حديث أبي الدرداء فرواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، في أثناء حديث، وقد تقدم في الحديث الثاني من هذا الباب، وهذا لفظ الترمذي إلا أنه قال: "يبتغي به" بدل "يطلب فيه" وتقدم لفظ أبي داود، وقال ابن ماجه: "يلتمس" بدل "يطلب" وقال: "سهل الله له" .

وأما حديث أبي هريرة فرواه مسلم وابن ماجه من رواية أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رفعه بلفظه، إلا أن مسلما قال: "سهل الله له" وقال ابن ماجه: "به" وقال أيضا: "يلتمس" بدل "يطلب" اهـ .

قلت: وعزاه الجلال في ذيله على الجامع إلى الإمام أحمد والأربعة وابن حبان، كلهم عن أبي الدرداء بلفظ: "يطلب فيها علما سهل الله له طريقا من طرق الجنة".

ونص الترمذي في جامعه: حدثنا محمود بن خداش، عن محمد بن يزيد [ ص: 95 ] الواسطي، عن عاصم بن رجاء أبي حيوة، عن قيس بن كثير، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" ثم ساق جملا مضى ذكر بعضها في أحاديث فضل العلم، ويأتي بعضها، ثم قال: كذا حدثنا محمود، وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء، وهذا أصح من حديث محمود، ولا يعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم.

وفي العلل للدارقطني: رواه الأوزاعي، عن كثير بن قيس، عن يزيد بن سمرة، وغيره من أهل العلم، عن كثير بن قيس، قال: وعاصم بن رجاء ومن فوقه إلى أبي الدرداء ضعفاء .

وقال البزار: داود بن جميل وكثير بن قيس لا يعلمان في غير هذا الحديث، ولا نعلم روى عن كثير غير داود والوليد بن مرة، ولا نعلم روى عن داود غير عاصم .

قال ابن القطان: اضطرب فيه عاصم، فعنه في ذلك ثلاثة أقوال:

أحدها: قول عبد الله بن داود، عن عاصم، عن واقد، عن كثير بن قيس.

الثاني: قول أبي نعيم، عن عاصم، عمن حدثه عن كثير .

والثالث: قول محمد بن يزيد الواسطي، عن عاصم، عن كثير، ولم يذكر بينهما أحدا، والمتحصل من علة هذا الخبر هو الجهل بحال راويين من رواته، والاضطراب فيه ممن لم تثبت عدالته. اهـ .

وقد مر عند الترمذي في رواية محمود بن خداش، عن محمد بن يزيد، فسماه قيس بن كثير، فصار اضطرابا رابعا .

والخامس: قال في التهذيب: داود بن جميل، وقال بعضهم: الوليد بن جميل، وفي جامع العلم لابن عبد البر من رواية ابن عياش، عن عاصم بن جميل بن قيس، ثم قال: قال حمزة بن محمد، كذا قال ابن عياش في هذا الخبر: جميل بن قيس، وقال محمد بن يزيد وغيره: عن عاصم، عن كثير بن قيس، قال: والقلب إلى ما قاله محمد بن يزيد أميل وهذا اضطراب سادس، وسابع وثامن ذكره ابن قانع في المعجم، وزعم أن كثير بن قيس صحابي، وأنه هو الراوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبعه ابن الأثير على هذا .

وقول ابن القطان: لا يعرف كثير في غير هذا الحديث يرده قول ابن عبد البر: روى عن أبي الدرداء، وعبد الله بن عمر، ومع ذلك فقد قال ابن عبد البر: قال حمزة: وهو حديث حسن غريب، والتزم الحاكم صحته، وكذا ابن حبان رواه عن محمد بن إسحاق الثقفي، حدثنا عبد الأعلى بن حماد، حدثنا عبد الله بن داود، فذكره بطوله .

وقال الترمذي بعد إخراجه للجملة الأولى من الحديث عن أبي هريرة: حسن، قال القسطلاني: وإنما لم يقل: صحيح لتدليس الأعمش، لكن في رواية مسلم عن الأعمش: حدثنا أبو صالح، فانتفت تهمة تدليسه. اهـ .

وقال الحاكم في المستدرك: فهو صحيح على شرطهما، رواه عن الأعمش جماعة منهم زائدة، وأبو معاوية، وابن نهي. اهـ .

وأورده البخاري في أول صحيحه، ولفظه: "سهل الله له طريقا إلى الجنة" والباقي مثل سياق مسلم، والحديث محفوظ، وله أصل، وقد تظاهر الشرع والعقل على أن الجزاء من جنس العمل، فكلما سلك طريقا يطلب فيه حياة قلبه ونجاته من الهلاك سلك الله به طريقا يحصل له ذلك .

وروى ابن عدي من حديث محمد بن عبد الملك الأنصاري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مرفوعا: "أوحي إلي أنه من سلك مسلكا يطلب العلم سهلت له طريقا إلى الجنة" قال العيني وابن حجر: وإنما لم يفصح البخاري بكونها تعليقا للعلل التي ذكرت .

وقال المناوي في شرح الحديث "طريقا" أي: حسية أو معنوية، وعلما نكرة ليعم كل علم شرعي وآلته، ومعنى تسهيل الطريق في الدنيا أن يوفقه للعمل الصالح، وفي الآخرة بأن يسلك به طريقا لا صعوبة فيها ولا هول، إلى أن يدخله الجنة سالما .

الحديث الثاني: (وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب") وفي نسخة: "بما يصنع" الأجنحة جمع جناح بالفتح، وهو للطائر بمنزلة اليد للإنسان، ووضع أجنحتها عبارة عن حضورها مجلسه وتوقيره وتعظيمه، أو إعانته على بلوغ مقاصده، أو قيامهم في كيد أعدائه وكفايته شرهم، أو عن تواضعها ودعائها له، يقال للرجل المتواضع: خافض الجناح، قال السيد السمهودي: والأقرب كونه بمعنى ما ينظم هذه المعاني كلها، كما يرشد إليه الجمع بين ألفاظ الروايات، وروى النووي في بستانه بسنده إلى زكريا الساجي: كنا نمشي في أزقة البصرة إلى بعض [ ص: 96 ] المحدثين فأسرعنا المشي، ومعنا رجل فاجر، فقال: "ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها" كالمستهزئ، فما زال من موضعه حتى جفت رجلاه وسقط .

وروى محمد بن طاهر المقدسي بسنده إلى الإمام أبي داود قال: كان في أصحاب الحديث خليع سمع بحديث "إن الملائكة لتضع" إلخ، فجعل في نعله مسامير حديد، وقال: أريد أن أطأ أجنحة الملائكة، وأصابته الأكلة في رجله، وفي رواية: فشلت يداه ورجلاه، وسائر أعضائه .

قال العراقي: أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه من حديث صفوان بن عسال، وهذا اللفظ لأحمد، وفي رواية له: "ما من خارج يخرج من بيته إلا وضعت الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع" وهو لفظ ابن ماجه، وقال الحاكم: "يضع" .

وأخرجه الثلاثة وابن حبان من حديث أبي الدرداء، وقالوا: "رضا لطالب العلم" ليس فيه: "بما يضع" وأخرجه الذهبي في كتاب العلم من رواية زياد بن ميمون، عن أنس بمثله. اهـ .

قلت: أما حديث أنس فقد أخرجه ابن عساكر والطيالسي والبزار والديلمي، ولفظهم: "طالب العلم تبسط له الملائكة أجنحتها رضا بما يطلب".

وأما حديث أبي الدرداء فقد أخرجه الإمام أحمد أيضا، وابن ماجه.

وأما حديث صفوان فأخرجه الطيالسي أيضا، ولفظه: "بما يطلب" كما للمصنف .

وقرأت في إصلاح المستدرك للحافظ العراقي بخطه، وقد ساق هذا الحديث من طريق الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، أتيت صفوان بن عسال المرادي، فقال: ما جاء بك قال: فقلت: جئت لأطلب العلم، قال: فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من خارج يخرج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضا بما يصنع".

ثم قال: وأخرجه الطبراني عن إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق مثله، وهو حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه، عن محمد بن يحيى، عن عبد الرزاق، مقتصرا على المرفوع منه، دون سؤال صفوان لزر عما جاء به وجوابه .

ورواه ابن حبان في صحيحه في ثلاثة أنواع عن ابن خزيمة، عن محمد بن يحيى ومحمد بن رافع، عن عبد الرزاق، وقال في نوع منها: وأخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة بخبر غريب .

ورواه الحاكم، عن محمد بن يعقوب الأصم، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن عبد الوهاب بن بخت، عن زر، عن صفوان، قوله، غير مرفوع، وزاد في آخره: "حتى يرجع" وقال: هذا إسناد صحيح؛ فإن عبد الوهاب بن بخت من ثقات المصريين وأثباتهم، وقد احتجا به، ولم يخرجا هذا الحديث .

قال: ومدار هذا الحديث على عاصم، عن زر، وله عن زر شهود ثقات غير عاصم، منهم المنهال بن عمرو، وقد اتفقا عليه .

ثم رواه من رواية عارم، عن الصعق بن حزن، عن علي بن الحكم، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، قال: جاء رجل من مراد يقال له: صفوان بن عسال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره مرفوعا، لكنه مرسل كما سيذكره بعد .

ثم قال الحاكم: وقد خالفه شيبان بن فروخ، فقال: حدثنا الصعق بن حزن، حدثنا علي بن الحكم البناني، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: حديث صفوان بن عسال المرادي، قال: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في قبة من أدم أحمر، فقلت: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم، فقال: مرحبا بطالب العلم، إن طالب العلم لتحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضها بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب".

قال: هذا حديث رجاله محتج بهم في الصحيح، إلا أن ذكر ابن مسعود فيه نوع من المزيد في متصل الأسانيد، وقال: وقد صرح زر بسماعه له من صفوان، ويحتمل أنه سمعه من ابن مسعود عن صفوان، ثم سمعه من صفوان، ثم قال الحاكم: وقد أوقف هذا الحديث جماعة، منهم أبو خباب الكلبي، عن طلحة بن مصرف، عن زر، ثم رواه من رواية الحسن بن صالح، عن أبي خباب موقوفا على صفوان، والذي أسنده أحفظ، والزيادة منهم مقبولة، وهذا حديث صحيح، وقد أورد العراقي على الحاكم في هذا السياق ثمان مؤاخذات، تركتها خوف الإطالة. والله أعلم .




الخدمات العلمية