الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر ، وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ، ولا يتنعم في الدنيا ، بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا ، وهي شهوة البطن ، والفرج فهؤلاء نسوا أنفسهم ، وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة يأكلون كما تأكل الأنعام ، ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد ، أدركوا غاية السعادة فشغلهم ذلك عن الله تعالى وعن اليوم ، الآخر .

وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز فأسهروا ، ليلهم ، وأتعبوا نهارهم في الجمع فهم يتعبون في الأسفار طول الليل والنهار ، ويترددون في الأعمال الشاقة ، ويكتسبون ويجمعون ، ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحا وبخلا عليها أن تنقص ، وهذه لذتهم ، وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت ، فيبقى تحت الأرض ، أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات فيكون للجامع تعبه ووباله وللآكل لذته ثم الذين يجمعون ينظرون إلى أمثال ذلك ولا يعتبرون وطائفة ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء ، والمدح بالتجمل ، والمروءة ، فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ، ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة ويزخرفون أبواب الدور ، وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال : إنه غني ، وإنه ذو ثروة ، ويظنون أن ذلك هو السعادة فهمتهم ، في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس .

وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس ، وانقياد الخلق بالتواضع ، والتوقير ، فصرفوا هممهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة لطلب الولايات ، وتقلد الأعمال السلطانية ; لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس ، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم ، وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة ، وأن ذلك غاية المطلب ، وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس ، فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله ، وعن عبادته ، وعن التفكر في آخرتهم ، ومعادهم ، ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقة ، كلهم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم ، والملبس ، والمسكن ونسوا ، ما تراد له هذه الأمور الثلاثة ، والقدر الذي يكفي منها ، وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها وتداعى بهم ذلك إلى مهاو لم يمكنهم الرقي منها ، فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب ، والأشغال ، وعرف غاية المقصود منها ، فلا يخوض في شغل ، وحرفة ، وعمل إلا وهو عالم بمقصوده ، وعالم بحظه ، ونصيبه منه وأن ، غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال عنه وفرغ القلب ، وغلب عليه ذكر الآخرة وانصرفت الهمة إلى الاستعداد له وإن تعدى به قدر الضرورة كثرت الأشغال ، وتداعى البعض إلى البعض ، وتسلسل إلى غير نهاية فتتشعب به الهموم ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا ، فحسدهم الشيطان ولم يتركهم وأضلهم في الإعراض أيضا حتى انقسموا إلى طوائف .

فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها سواء تعبد في الدنيا ، أو لم يتعبد ، فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا وإليه ذهب طوائف من العباد من أهل الهند ، فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا .

التالي السابق


(وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز، فسهروا ليلهم، وأتعبوا نهارهم في الجمع) من هنا، ومن هنا (فهم يتعبون في الأسفار) ، والبراري، والبحار (طول الليل والنهار، ويترددون في الأعمال الشاقة، ويكتسبون ويجمعون، ولا يأكلون إلا قدر الضرورة) من غير توسع (شحا وبخلا عليها أن تنقص، وهذه لذتهم، وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت، فيبقى) المال موقوفا (تحت الأرض، أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات) ، ويتوسع فيها (فيكون للجامع تعبه ووباله) ; إذ يحاسب به يوم القيامة، وللآكل لذته، ولله در القائل:


قد يجمع المال غير آكله ويأكل المال غير من جمعه

(ثم الذين يجمعون) المال (ينظرون إلى أمثال ذلك) ممن جمع، فلم يأكل، وأكله غيره (ولا يعتبرون) ، وذلك من عمي بصائرهم .

(وطائفة) أخرى (ظنوا أن السعادة في حسن الاسم) ، والذكر الطيب (وانطلاق الألسنة بالثناء، والمدح بالتجمل، والمروءة، فهؤلاء يتعبون في كسب المعايش، ويضيقون على أنفسهم) ، وربما يتداينون فوق طاقتهم (ويزخرفون أبواب الدور، وما يقع عليه أبصار الناس) ، ويتخذون فرسا نفيسة، وخدما، وحشما، ويلبسونهم فاخر الثياب (حتى يقال: إنه غني، وإنه ذو ثروة، ويظنون أن ذلك هو السعادة، همتهم في ليلهم ونهارهم في تعهد موقع نظر الناس) من داره، وأثاثه، وملبسه، ومركبه، وهذه حال خواص أهل الزمان، وهو قصور عن بلوغ المقصود، وإراءة ما ليس له حقيقة، وخبث النية، وفساد الطوية من حب المحمدة والثناء .

(وطائفة) أخرى (ظنوا أن السعادة في الجاه والمكرمة بين الناس، وانقياد الخلق بالتواضع، والتوقير، فصرفوا هممهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة) ، والانقياد (لهم بطلب الولايات، وتقلد الأعمال السلطانية; لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم، وانقادت لهم رعاياهم قد سعدوا سعادة عظيمة، وأن ذلك غاية المطلب، وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس، فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله، وعن عبادته، وعن التفكر في آخرتهم، ومعادهم، ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها على الضابط تزيد على نيف وسبعين فرقة، كلهم ضلوا) في أنفسهم (وأضلوا) كثيرا ممن تبعهم، وقلدهم (عن سواء السبيل) ، أي: الطريق المستقيم (وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم، والملبس، والمسكن، فنسوا ما تراد له هذه الأمور الثلاثة، والقدر الذي يكفي منها، وانجرت لهم [ ص: 138 ] أوائل أسبابها) إلى آخرها، وتداعى بهم إلى الوقوع في (مهاوي) ، أي: وهدات منخفضة (لم يمكنهم الرقي) ، أي: الصعود والخلاص (منها، فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب، والأشغال، وعرف غاية المقصود منها، فلا يخوض في شغل، وحرفة، وعمل) منها (إلا وهو عالم بمقصوده، وعالم بحظه، ونصيبه منه، و) عالم (أن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت) الذي يتقوى به (والكسوة) التي يقي بها من الحر، والبرد (حتى لا يهلك) جوعا وعريا، (وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل) مقتصرا فيه على الكفاف (اندفعت الأشغال) جملة (وفرغ القلب لمعرفة الله، وغلب عليه ذكر الآخرة) ، وما أعد الله له منها (وانصرفت الهمة) لا محالة (إلى الاستعداد له) ، أي: لذكر الآخرة .

(وإن تعدى به قدر الضرورة) ، وتجاوز عنه (كثرت الأشغال، وتداعى البعض إلى البعض، وتسلسل إلى غير نهاية) ، فقد روى ابن ماجه، والحكيم، والشاشي، والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود: من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه (ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا) ، وأحوالها (فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها) ، وفي لفظ: لم يبال الله في أي أوديته هلك.

(فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا) المكبين عليها (وتنبه لذلك طائفة من الناس فأعرضوا عن الدنيا، فحسدهم الشيطان) على ذلك (ولم يتركهم) من مكيدته (وأضلهم في الأعراض أيضا حتى انقسموا إلى طوائف، فظنت طائفة) منهم (أن الدنيا دار بلاء ومحنة) واختبار، وعبر، وشقاوة (والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها) بأي طريق كان (سواء تعبد في الدنيا، أو لم يتعبد، فرأوا أن الصواب أن يقتلوا أنفسهم قتلا حقيقيا للخلاص من محنة الدنيا) ، وبلائها، وفتنتها، فهم صدقوا في أول ظنهم، وهو كون الدنيا دار محنة وبلاء، ولكن أخطأوا في طريق الوصول إلى سعادة الآخرة (وإليه ذهب طوائف) البراهمة المعروفة بالجركية (من الهند، فهم يتهجمون على النار يقتلون أنفسهم بالإحراق فيها) كما نقل ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات، وأورده ابن بطوطة في رحلته (ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا) ، وهو غاية الضلال، والخسران، وقد تمكن منهم الشيطان حتى سول لهم ذلك; ولهذه الطائفة فضائح كثيرة من هذا الجنس، ويدخل في هذا الجنس طوائف الدرزية الذين يرمون أنفسهم من شاهق الجبل بعد أن يأخذوا ديتهم، ويسلمونها إلى أولادهم فيظنون أن الموت على هذا الوصف سعادة لهم، ولأولادهم، وهو عين الضلال .




الخدمات العلمية