وأما ، أهل البلد أيضا فيتعاملون في الحاجات ، ويتنازعون فيها ، ولو تركوا كذلك لتقاتلوا ، وهلكوا ، وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتواردون على المراعي والأراضي ، والمياه ، وهي لا تفي بأغراضهم ، فيتنازعون لا محالة ، ثم قد يعجز بعضهم عن الفلاحة ، والصناعة بعمى ، أو مرض ، أو هرم وتعرض عوارض مختلفة ، ولو ترك ضائعا لهلك ، ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ، ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له فحدث بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى .
فمنها صناعة المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم بالعدل .
ومنها صناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ودفع اللصوص عنهم .
ومنها صناعة الحكم والتوصل ، لفصل الخصومة ، ومنها الحاجة إلى الفقه ، وهو معرفة القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق ويلزموا ، الوقوف على حدوده ; حتى لا يكثر النزاع ، وهو معرفة حدود الله تعالى في المعاملات وشروطها .
فهذه أمور سياسية لا بد منها ولا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتمييز ، والهداية وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ، ويحتاجون إلى المعاش ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلا تعطلت الصناعات ، ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت تعطلت البلاد عن الحراس واستضر الناس ، فمست الحاجة إلى أن يصرف إلى معايشهم وأرزاقهم الأموال الضائعة التي لا مالك لها إن كانت أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار ، فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح ، وإن أرادوا التوسع ، فتمس الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة فتحدث ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج الحاجة لصناعات أخر ; إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على الفلاحين ، وأرباب الأموال ، وهم العمال وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة والمستخرجون وإلى من يجمع عنده ليحفظه إلى وقت التفرقة وهم الخزان وإلى من يفرق عليهم بالعدل ، وهو الفارض للعساكر ، وهذه الأعمال لو تولاها عدد لا تجمعهم رابطة انخرم النظام فتحدث منه الحاجة إلى ملك يدبرهم وأمير مطاع يعين لكل عمل شخصا ، ويختار لكل واحد ما يليق به ويراعي ، النصفة في أخذ الخراج وإعطائه ، واستعمال الجند في الحرب ، وتوزيع أسلحتهم وتعيين ، جهات الحرب ، ونصب الأمير ، والقائد على كل طائفة منهم ; إلى غير ذلك من صناعات الملك ، فيحدث من ذلك بعد الجند الذين هم أهل السلاح ، وبعد الملك الذي يراقبهم بالعين الكالئة ، ويدبرهم الحاجة إلى الكتاب ، والخزان ، والحساب ، والجباة ، والعمال . الحاجة إلى الخراج