الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : من تطعم بما لا يطعم أو قال ، لي : وليس له أو أعطيت ، ولم يعط فهو ، كلابس ثوبي زور يوم القيامة .

ويدخل في هذا فنرى العالم لما لا يتحققه وروايته الحديث الذي لا يتثبته إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه فهو لذلك يستنكف من أن يقال : لا أدري ، وهذا حرم ومما يلتحق بالنساء الصبيان ، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب إلا بوعد أو وعيد أو تخويف كاذب ، كان ذلك مباحا نعم ، روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذبا ولكن الكذب المباح أيضا قد يكتب ويحاسب عليه ، ويطالب بتصحيح قصده فيه ، ثم يعفى عنه لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح ، ويتطرق إليه غرور كبير ؛ فإنه قد يكون الباعث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه ، وإنما يتعلل ظاهرا بالإصلاح ، فلهذا يكتب وكل من أتى بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا ، وذلك غامض جدا والحزم ، تركه إلا أن يصير واجبا بحيث لا يجوز تركه كما لو أدى إلى سفك دم أو ارتكاب معصية ، كيف كان .

وقد ظن ظانون أنه يجوز وضع الأحاديث في فضائل الأعمال وفي التشديد في المعاصي وزعموا أن القصد منه صحيح ، وهو خطأ محض إذ قال صلى الله عليه وسلم : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار وهذا لا يرتكب إلا لضرورة ، ولا ضرورة ; إذ في الصدق مندوحة عن الكذب ، ففيما ورد من الآيات والأخبار كفاية عن غيرها وقول القائل إن ذلك قد تكرر على الأسماع وسقط وقعه وما هو جديد فوقعه أعظم ، فهذا هوس إذ ليس هذا من الأغراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الله تعالى ويؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة فلا يقاوم خير هذا شره أصلا والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر التي لا يقاومها شيء نسأل الله العفو عنا وعن جميع المسلمين .

.

التالي السابق


(وقال صلى الله عليه وسلم: من تطعم بما لم يطعم، وقال) هذا: (لي، وليس له، وأعطيت، ولم يعط، وكان كلابس ثوبي زور يوم القيامة) قال العراقي : لم أجده بهذا اللفظ. قلت: ولكن معناه صحيح .

وروى العسكري في الأمثال من طريق أيوب بن سويد عن الأوزاعي عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا: من تحلى بباطل كان كلابس ثوبي زور . وفي معناه ما رواه الديلمي من حديث ابن عباس : "من تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك ، شانه الله عز وجل" . (ويدخل في هذا فتوى العالم بما لم يتحققه) من نفسه، (وروايته الحديث الذي ليس يثبت فيه) ، لعدم تمكنه في صناعته، (إذ غرضه) من إفتائه وتحديثه، (أن يظهر فضل نفسه) على غيره، (فهو لذلك يستنكف من أن يقول: لا أدري، وهذا حرام) ، ويلتحق به الانتصاب للتدريس والإفادة في العلوم الظاهرة، أو الباطنة من غير تمكنه من الأهلية، فإنه لعب في الدين وإزراء به، قال الشبلي : من تصدر قبل أوانه، فقد تصدى لهوانه. وفي المشهور على الألسنة: من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه. (ومما يلتحق بالنساء الصبيان، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب إلا بوعد) [ ص: 527 ] بشيء، (أو وعيد وتخويف، كان ذلك مباحا) ، وإن كان كذبا في نفسه، (نعم، روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذيبة) ، تصغير كذبة، فمن ذلك ما روي من حديث ابن مسعود مرفوعا وموقوفا في أثناء حديث طويل: وإن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، ولا يعد أحدكم صبيا ولا ينجز له . ومن حديث أبي هريرة : "من قال لصبيه: ها أعطيك؛ فلم يعطه شيئا، كتبت كذبة" . رواهما ابن أبي الدنيا في الصمت، (ولكن الكذب المباح أيضا قد يكتب) في صحيفة أعماله، (ويحاسب عليه، ويطالب بتصحيح قصده) ، وحسن نيته، (فيه، ثم يعفى عنه) بمحض فضله; (لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح، ويتطرق إليه غرور كثير؛ فإنه قد يكون الباعث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه، وإنما يتعلل ظاهرا بالإصلاح، فلهذا يكتب) ، ومن ثم شدد فيه، فقال ابن مسعود : والذي نفسي بيده ما أحل الله الكذب في جد ولا هزل قط، اقرؤوا إن شئتم: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ، وقال الأعمش : ذكرت لإبراهيم حديث أبي الضحى عن مسروق أنه رخص في الكذب في الإصلاح بين الناس ، فقال: ما كانوا يرخصون في الكذب في جد ولا هزل. وقال عبد الله بن عون : ذكر عند محمد بن سيرين أنه يصلح الكذب في الحرب ، فأنكر ذلك، وقال: ما أعلم الكذب إلا حراما ، (وكل من أتى بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب له) ، أي: لأجل تحصيله، (هل هو أهم في الشرع من الصدق) وآكد، (أم لا، وذلك غامض) أي: خفي (جدا، فالحزم) كل الحزم (في تركه) من أصله (إلا أن يصير واجبا) عليه، (بحيث لا يجوز تركه كما) ، إذا كان الصدق (يؤدي إلى سفك دم) أخيه بغير وجه شرعي، (وارتكاب معصية كبيرة يتسبب منها الانحلال عن ربقة الدين، كيف كان) ، وهذا هو التحقيق في هذا المقام، (وقد ظن ظانون) من الكرامية، ومن تبعهم من غيرهم من جهلة المتصوفة والقصاص (أنه يجوز وضع الأخبار) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (في) الترغيب، مثل (فضائل الأعمال) من صلاة وصوم في ساعات مخصوصة وأيام مخصوصة، وكذا فضائل القرآن، (وفي) الترهيب، مثل (التشديد في المعاصي) ، والزجر عنها، (وزعموا أن القصد منه صحيح، وهو خطأ محض) ، وشذوذ عن طريق الاستقامة، بل غباوة ظاهرة وجهالة متناهية، قال ابن جماعة وغيره: وهؤلاء أعظم الأصناف ضررا وأكثرهم خطرا، إذ لسان حالهم يقول: الشريعة محتاجة لكذا، فنكملها، (إذ قال صلى الله عليه وسلم: من كذب علي) أي: أخبر عني بشيء خلاف ما هو عليه (متعمدا) أي: قاصدا ذلك عن عمد، (فليتبوأ) أي: ليتخذ (مقعده من النار) أمر بمعنى الخبر، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء عليه، أي: بوأه الله ذلك، أو خبر بلفظ الأمر، ومعناه: استوجب ذلك، فليوطن نفسه عليه، والمراد أن هذا جزاؤه، وقد يغفر له، أو الأمر على حقيقته، والمعنى: من كذب فليأمر نفسه بالبواء. قال الحافظ ابن حجر : وأول الوجوه أولاها، أخرج هذا الحديث الأئمة الستة في كتبهم من طرق متعددة تقدم ذكرها تفصيلا في كتاب العلم، فراجعه، وقال ابن الصلاح : ليس في مرتبته من التواتر غيره، وخرج بقوله: "متعمدا" ما إذا كان عن ذهول ونسيان، كما وقع لبعض الثقات، فإن هذا ليس بكذب عليه. (وهذا لا يترك إلا لضرورة، ولا ضرورة هنا; إذ في الصدق مندوحة) أي: متسع (عن الكذب، ففيما ورد من الآيات والأخبار) في الترغيب والترهيب (كفاية) ومقنع (عن غيرها) ، فلا يصار إليه، (وقول القائل) منهم، (إن ذلك تكرر على الأسماع) ، وكثر وروده عليها، (وسقط وقعه) وملت منه، (وما هو جديد) طري لم يسمع، (فوقعه) على القلوب (أعظم، فهذا هوس) ، وتخبيط وجهل عظيم، (إذ ليس هذا من الأغراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الله تعالى ) ، وإذا قيل بذلك على ما زعموا فإنه، (يؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة) ، وتقلبها، (فلا يقاوم خير هذا) إن فرض أنه خير (شره أصلا) ، وإذا فهمت ذلك، (فالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو كذب على الله تعالى، وأنه (من الكبائر التي لا يقاومها شيء) أي: هو من أكبر الكبائر، وعليه الإجماع، وكون [ ص: 528 ] متعمد الكذب عليه يكفر، ذهب إليه الشيخ أبو محمد الجويني ، كما نقله ابن الجوزي والسيوطي وغيرهما، ولكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ، كما تقدم ذلك في كتاب العلم مفصلا .

وروى أحمد من حديث ابن عمر : "من كذب علي فهو في النار" . وظاهره: ولو مرة، قال أحمد : يفسق وترد شهادته، ورواياته كلها، ولو تاب وحسنت توبته؛ تغليظا عليه، وغالب الكذابين على النبي صلى الله عليه وسلم زنادقة أرادوا تبديل الدين، قال حماد : وضعت الزنادقة أربعة عشر ألف حديث، والله أعلم .

واستشكل هذا الحديث بأن الكذب معصية مطلقا، إلا لمصلحة، والمعاصي متوعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به عنها الكاذب عليه، وأجيب بأن الكذب عليه كبيرة، وعلى غيره صغيرة، ولا يلزم أن يكون مقر الكاذبين واحدا، ويدل لذلك ما رواه الطبراني في الكبير، وابن مردويه من حديث أبي أمامة : "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من بين عيني جهنم. قالوا: يا رسول الله نحدث عنك بالحديث يزيد وينقص. قال: ليس ذلك أعنيكم، إنما أعني الذي يكذب علي متحدثا يطلب به شين الإسلام. قالوا: وهل لجهنم عين؟ قال: نعم، أما سمعتموه يقول: إذا رأتهم من مكان بعيد ؟ فهل تراهم إلا بعينين .




الخدمات العلمية