الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وأما أداء المزاح إلى سقوط الوقار ، فقد قال عمر رضي الله عنه : من مزح استخف به .

وقال محمد بن المنكدر قالت لي أمي يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عندهم وقال سعيد بن العاص لابنه يا بني ، لا تمازح الشريف فيحقد عليك ، ولا الدنيء فيجترئ عليك وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى اتقوا الله وإياكم والمزاح ؛ فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح ، تحدثوا بالقرآن ، وتجالسوا به ؛ فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال .

وقال عمر رضي الله عنه : أتدرون لم سمي المزاح مزاحا ؟ قالوا : لا . قال : لأنه أزاح صاحبه عن الحق وقيل : لكل شيء بذور وبذور ، العداوة المزاح ويقال : المزاح مسلبة للنهى مقطعة للأصدقاء .

فإن قلت قد : نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكيف ينهى عنه ، فأقول : إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقا ، ولا تؤذي قلبا ، ولا تفرط فيه ، وتقتصر عليه أحيانا على الندور فلا حرج عليك فيه ، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليه ، ويفرط فيه ، ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد وهو خطأ ، إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالإصرار ومن المباحات ما يصير صغيرة بالإصرار فلا ينبغي أن يغفل عن هذا نعم روى أبو هريرة أنهم قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا فقال : إني وإن داعبتكم لا أقول إلا حقا .

التالي السابق


(وأما إذا أدى المزاح إلى سقوط الوقار ، فقد قال عمر رضي الله عنه: من مزح استخف به ) أخرجه ابن أبي الدنيا ، وقد تقدم، (وقال) أبو عبد الله (محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن الهدير التيمي المدني، ثقة، فاضل، روى له الجماعة، (قالت لي أمي) قال: أبو القاسم اللالكائي : كان المنكدر خال عائشة ، فشكا إليها الحاجة، فقالت له: إن لي شيئا يأتيني أبعث به إليك. فجاءتها عشرة آلاف، فبعثت بها إليه، فاشترى جارية من العشرة آلاف، فولدت له محمدا ، وأبا بكر ، وعمر : (لا تمازح الصبيان فتهون عندهم) أخرجه ابن أبي الدنيا عن إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر قال: قالت لي أمي: لا تمازح الصبيان فتهون عليهم ، (وقال) أبو عثمان (سعيد بن العاص) بن أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي، أحد أشراف قريش وأجوادها، (لابنه) وهو عمرو بن سعيد، ويعرف بالأشدق ، وقد تقدم ذكره: (يا بني، لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترئ عليك ) أخرجه ابن أبي الدنيا عن أبي صالح المروزي ، حدثنا عبد العزيز بن أبي رزمة عن عبد الله بن المبارك قال: قال سعيد بن العاص لابنه.. فساقه، وأخرجه الدينوري في المجالسة من طريق أبي عبيدة قال: قال سعيد .. فذكره، (وقال عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى: (اتقوا الله وإياكم والمزاح؛ فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، تحدثوا بالقرآن، وتجالسوا به؛ فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال) أخرجه ابن أبي الدنيا ، عن أبي كريب ، حدثنا زكريا بن عدي ، عن عبد الله بن المبارك ، عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: قال عمر بن عبد العزيز : اتقوا الله وإياكم والمزاح؛ فإنه يورث الضغينة، ويجر القبيحة، تحدثوا بالقرآن، وتجالسوا به.. والباقي سواء .

( وقال عمر رضي الله عنه: أتدرون لم سمي المزاح مزاحا؟ قالوا: لا. قال: لأنه زاح صاحبه عن الحق ) أخرجه ابن أبي الدنيا عن علي بن الحسن ، حدثنا أبو صالح ، حدثني الليث بن سعد أن عمر بن الخطاب قال: هل تدرون.. فساقه، (وقيل: لكل شيء بذر، وبذر العداوة المزاح) أخرجه ابن أبي الدنيا ، عن الحسين بن عبد الرحمن قال: قال خالد بن صفوان : قال: كان يقال: لكل شيء بذر.. فساقه، (ويقال: المزاح مسلبة للنهى) ، هكذا في النسخ، أي: العقول، (مقطعة للأصدقاء) أخرجه ابن أبي الدنيا عن الحسين بن عبد الرحمن ، كان يقال: المزاح مسلبة للبهاء، مقطعة للصداقة ، (فإن قلت: فقد نقل المزاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه) الكرام، (فكيف ينهى عنه، فأقول:) إنه صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه وأهله وغيرهم على غاية من سعة الصدر، ودوام البشر، وحسن الخلق، وإفشاء السلام، والبداية على من لقيه، والوقوف على من استوقفه، والمشي مع من أخذ بيده حتى من الولدان، والإماء، والمزاح بالحق أحيانا، وإجابة الداعي، ولين الجانب، حتى يظن كل أحد من أصحابه أنه أحبهم إليه، وهذا ميدان ليس فيه إلا واجب أو مستحب، ولو لم يكن من مباسطته لهم إلا الاستضاءة بنور هدايته والاقتداء به في ذلك وتألفهم حتى يزول ما عندهم من هيبته، فيقدرون على الاجتماع به، والأخذ عنه، لكان ذلك هو الغاية العظمى في الكمال، وأنت (إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقا، ولا تؤذي قلبا، ولا تفرط فيه، وتقتصر عليه أحيانا على الندور) والقلة، (فلا حرج عليك، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة) وصنعة، (يواظب عليه، ويفرط فيه، ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم) [ ص: 499 ] ويقول: أنا مقتد به، (وهو كمن يدور نهاره) أجمع مع الزنوج والحبشة (ينظر إليهم وإلى رقصهم) ولعبهم، (ويتمسك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة ) رضي الله عنها (في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد) ، كما تقدم في كتاب السماع، يقال: هو يوم عيد فطر، (وهو خطأ، إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالإصرار) عليه، فلا ينبغي أن يغفل عن هذا، (نعم روى أبو هريرة ) رضي الله عنه فيما رواه الترمذي في السنن، وفي الشمائل وحسنه، وقال: رجاله موثقون: ( إنك تداعبنا. قال: إني وإن داعبتكم لا أقول إلا حقا ) ، والمداعبة هي الملاطفة في القول بالمزاح وغيره، وكأنهم قصدوا بذلك إما السؤال عن المداعبة، هل هي من خواصه، فلا يتأسون به فيها، فبين لهم أنها ليست من خواصه، وأن جوازها منوط بقول الحق، وأما استبعادهم وقوع المزاح منه صلى الله عليه وسلم لجليل مكانته وعظيم مرتبته، فكأنهم سألوه عن حكمته، فأجابهم، قال ابن حجر المكي في شرح الشمائل: وهذا أولى من قول الطيبي ، فكأنهم أنكروه فرد عليهم من باب القول بالموجب؛ فإن المداعبة لا تنافي الكمال، بل هي من توابعه ومتمماته إذا كانت جارية على القانون الشرعي بأن يكون على وفق الصدق والحق، ويقصد تألف قلوب الضعفاء وجبرهم، وإدخال السرور عليهم، والرفق بهم، والمنهي عنه في الحديث السابق من رواية الترمذي : "لا تمار أخاك، ولا تمازحه" ، إنما هو الإفراط فيها والدوام عليها; لأنه يورث آفات كثيرة ظاهرة وباطنة من القسوة والغفلة، والإيذاء وإيراث الحقد وإسقاط المهابة، وغير ذلك، ومزاحه صلى الله عليه وسلم سالم من جميع هذه الأمور، يقع منه على جهة الندرة لمصلحة تامة من مؤانسة بعض أصحابه، فهو بهذا القصد سنة، وما قيل: إن الأظهر أنه مباح لا غير، فضعيف؛ إذ الأصل من أفعاله صلى الله عليه وسلم وجوب أو ندب؛ للتأسي به فيها إلا لدليل يمنع من ذلك، ولا دليل هنا يمنع منه، فتعين الندب، كما هو مقتضى كلام الفقهاء والأصوليين .




الخدمات العلمية